رواية "مترو حلب" : رحلة البحث عن الانتماء والهوية في زمن الحرب
Cet article a été rédigé dans le cadre d'un stage à l'ENS de Lyon
مقدمة
بمجرد أن يتخذ الشخص قرار مغادرة وطنه واللجوء إلى بلدان أخرى، ينطوي ذلك على عبور سلسلة من المآسي الإنسانية، فهو يتعرض لتحديات نفسية تتمثل في فقدان الهوية وتدهور الصحة النفسية وتشتت الوجدان بين الماضي والحاضر. هذا الانفصال عن الوطن يخلق شعوراً بالفقدان والانعزال والتبعثر، حيث يعاني الشخص المنفي من سكيزوفرينيا المكان، وهو عبارة عن انفصام بين المكان الجديد والذكريات التي لا تفارق هذا الشخص.
يتفاعل الأدباء والكتاب مع هذه الحالة الإنسانية المعقدة، حيث يسعون إلى توثيق تجارب اللاجئين وتجسيد آلامهم وتحدياتهم في أعمالهم الأدبية. تبرز الكاتبة مها حسن كواحدة من الروائيين الذين يقدمون رؤية مميزة وعميقة لهذه الظواهر الإنسانية في روايتها "مترو حلب" (دار التنوير، بيروت 2016). فتتبنى حسن في روايتها هذه لغةً أدبيةً تعكس معاناة الشعب السوري في المنافي، حيث تسلط الضوء على الآثار النفسية المدمرة للحرب على الأفراد، مثل الصراع الداخلي والشعور بالوحدة والغربة وتجربة الحياة بشكل عبثي، مما يثير رغبة بعضهم المتواصلة في العودة إلى أرض الوطن.
وبالفعل، تعكس رواية "مترو حلب" الأوضاع الصعبة التي شهدتها سوريا وخاصة مدينة حلب التي عاشت فيها الكاتبة قبل أن تتركها. يتضح من خلال هذه الرواية تشابه الخطوط بين حياة الشخصيات وتجارب الكاتبة نفسها، إذ انتصرت البطلة على التحديات والمحن التي واجهتها في مواجهة مآسي الحرب وحوادث الموت بروح قتالية وإصرار على البقاء رغم كل الصعاب.
التأرجح
تسود الرواية فكرة التأرجح بين متناقضات كثيرة وتعكس حالات من الشعور بعدم الاستقرار، منها: الحلم والواقع، الماضي والحاضر، البقاء والعودة، حلب وباريس، الخالة هدهد في حلب، والأم أمينة في باريس، الراهن الــمُعاش والذاكرة المتوهّجة. ثمّ يأخذ التأرجحُ معانيَ كثيرة، منها الغربة والوحدة والقلق والمنفى: "هل أنا نائمة وأكتب في نومي، أم أنني أكتب وأنا أشعر بهذا التأرجح؟ (...) أخاف التأرجح ... أخاف الأماكن البعيدة. هذا هو المنفى، يجب أن أكتب هذا حين أفيق. المنفى هو هذا التأرجح بين الوجود واللاوجود"مترو حلب، مها حسن، الصفحة 43.
اختيار العنوان يعكس تجربة التذبذب التي تتلاطم فيها مشاعر الاغتراب والقلق والتوتر، وتنقلب الذات بين مكانين وأزمنة مختلفة وبعيدة، يمثلها حركة المترو التي تتأرجح ذهنياً بين باريس كمكان للمنفى وحلب كمكان للذكريات.
تجسد صورة المترو فكرة الاستقرار والترحال معاً، وتعبّر عن الماضي والحاضر، وترمز إلى الهوية القديمة والجديدة وتبدلها بين الشرق والغرب، كما يشير إلى الحنين للوطن ورفض التأقلم مع الوضع الجديد في الغرب. يتجلى هذا المفهوم في حوار بين سارة وصديقتها هالا: (...) وصرنا على الأرض، في محطة ستالينغراد، نتفرج على المدينة، قالت تخيّلي لو أنا في هذا المترو الآن في حلب! قلتُ أتخيّل؟ أنا لا أكف عن تخيّل هذا. كلما مرّ المترو فوق السين أو المدينة، تخيّلت أنني سأنظر من النافذة، لأرى حلب أو سوق الهال أو حي التل..."مترو حلب، مها حسن، الصفحة 45.
المكان والانتماء
في رواية "مترو حلب"، يتجلى تأثير المكان على الشخصيات بشكل بارز، حيث يعكس كل مكان جزءاً من هويتها وانتمائها. فعمة سارة، على سبيل المثال، التي سافرت إلى عمان بهدف انتظار لم شملها إلى السويد، ترتبط بشدة بحيّها في الوطن، فهو المكان الذي تراه الصورة الحقيقية لذاتها، تتمسك بهذه الهوية بقوة وثبات، وتقول في حديثها عن علاقتها بالمكان في الوطن: "وما إن أصعد الدرج حتى أشعر أن هذا المكان لي، هويتي. حتى درج البناية أنتمي له، أنتمي للشوارع، للمحلات، للباعة، للفرن (...) وحين أتخيل أنني سألتحق بزوجي في السويد، أشعر بغصّة في القلب، كأنني أدخل قبراً ضيّقاً"مترو حلب، مها حسن، الصفحة 124. بالمقابل، تنغمس أمينة في عالم المسارح في باريس، حيث تشعر بالانتماء العميق إلى هذا المكان وتؤمن بأنه يمثل هويتها، فنراها تعترف لسارة في تسجيلاتها: " حين كنت أصعد إلى خشبة المسرح، كنت أنسى نفسي. أنسى أمينة. أتجرّد من كل هويّة، يصبح الفن هويتي(...)"مترو حلب، مها حسن، الصفحة 24. ومن ناحية أخرى، ترتبط سارة بالمكان الفرنسي بشكلٍ مؤقت، وتعتبره مرحلة عابرة وستعود إلى حلب، حيث تطمح دائماً لاستعادة هويتها وحياتها السابقة: فرنسا كلها الآن بالنسبة لي، مجرد فندق أو مشفى أو جسر بين جبلين، محطة هنا أنتظر فيها القطار الذاهب إلى بلدي هناك"مترو حلب، مها حسن، الصفحة : 15-16. وهكذا، يتفاعل الأشخاص مع المكان بطرق مختلفة، ويؤثر هذا المكان على تجاربهم الشخصية ومساراتهم في الحياة.
المنفى المضاعف التأثير
بعدما كانت سارة تعيش في عالم يبدو لها مألوفاً، حيث كانت ترتبط بأهلها وأصدقائها في وطنها الأصلي، جاءت تلك اللحظة المفاجئة حين كشفت أمينة الحقيقة المؤلمة لتُصبح سارة غريبة عن نفسها، وعن العالم من حولها. فالمنفى الذي تعيشه الآن ليس مجرد انفصال عن وطنها، بل هو انفصال عن هويتها وجذورها وأصلها:"أحتاج إلى الكثير من العزلة لأبدأ سيرة حياتي من جديد، بدءاً من اسم أمي الذي عرفته من يوم واحد فقط، وانتهاء بمحل الإقامة الذي لست متأكدة منه بعد. من أنا وأين أنا وماذا أفعل هنا وما هو بلدي الحقيقي ومن هم أهلي؟ الكثير من الأسئلة العالقة، التي تضطرب في داخلي وتفقدني الوعي بنفسي وبالعالم..."مترو حلب، مها حسن، الصفحة 199. كل هذه الأسئلة تلتف حولها كظلال مظلمة، تُرهقها وتُجرِّدها من الشعور بالانتماء والتماسك.
وبالإضافة إلى المنفى عن الوطن، فإن سارة تعاني أيضاً من المنفى عن الأصدقاء وأبناء وطنها. نظراً لوحدتها في بلد غريب، سرعان ما فرحت بوجود سوريين تستطيع أن تتشارك معهم الحياة والتظاهرات، لكنها تُعست فوراً بأفكارهم المتطرفة، وزاد هذا الواقع من عزلتها الاختيارية وإحساسها بالاغتراب، إذ إنها لا يمكنها أن تكون تلقائية معهم أو طبيعية وعليها أن تنتبه إلى كل كلمة تقولها وإلى أبعادها المؤدلَجة والمُهددة بتصنيفها بين طرفي نقيض، فتصف أصدقاء هالا بقولها: "على واحدنا الانتباه إلى كل كلمةٍ يقولها كي لا يتم تفسيرها وفق معاييرهم الثنائية الثابتة: مُعارض ـ مُوالٍ، قتيل ـ قاتل.. (...) لا يمكنك أن تفكر أو تنتقد. كل انتقاد للثورة، يعني وضعك في خانة الموالين..."مترو حلب، مها حسن، الصفحة 51.
هكذا، تعيش سارة تجربة الاغتراب المضاعف، حيث تجد نفسها غريبة عن كل ما كانت تعرفه، ومنفية عن الوطن والأصدقاء، وهي تبحث في العزلة عن هويتها المفقودة، وسط أزمة تجد فيها نفسها تائهة بين الذكريات والحاضر المرير.
الحروب والأزمات النفسية
قد يكون الغرض الأساسي من هذه الرواية هو تسليط الضوء على الجانب النفسي للأفراد الذين يعيشون في مجتمعات متأثرة بالحروب والأزمات، وكيف تؤثر هذه الظروف على صحتهم النفسية ومشاعرهم. يتضح هذا بوضوح في سلوكيات الشخصيات، حيث تعاني البطلة من الفصام على حد تعبيرها. إن نظرنا في سلوكيات سارة نجد أن لديها حالات كثيرة من فشل تمييز الواقع والخلط الدائم بين الأمور، الخلط بين هنا وهناك، وبين الآن والأمس، كما نلاحظ انخفاض المشاركة الاجتماعية وما رأيناه لديها من عزلة اختيارية، حتى أن أحد الأعراض الأكثر شيوعاً عند عامة الناس والمُتصل بالفصام- وهو ما لم يثبت العلم صحته- ازدواج الذات، فنرى فعلاً سارة بشخصيتين، الأولى تريد أن تصنع فناً تحلم به، والأخرى لا تريد سوى البكاء على الماضي. كانت سارة واعية بهذا الشعور وتسميه بالمسمى العلمي في قولها: "أعيش السكيزوفرينيا"مترو حلب، مها حسن، الصفحة .
لم تكن السكيزوفرينيا وحدها ما نال من الصحة النفسية لأبناء الحرب. تُعرفنا سارة على أزمة نفسية أخرى أسمتها "خلل المنافي" في قولها: أحتاج دائماً إلى التأكيد على المكان لا لأنني أنسى وأخلط (...) هذا ليس الألزهايمر، فأنا لا أزال شابة على الألزهايمر. أسمي مرضي: خلل المنافي"مترو حلب، مها حسن، الصفحة 9. وأزمة أخرى يمكن لنا أن نسميها أزمة الوهم والفوبيا من أدوات الحروب حين نقرأ ما قالته سارة عن الاستعراض العسكري الذي شاهدَته على شاشة التلفزيون، في اليوم الوطني الفرنسي: "خفق قلبي من الخوف، (...) لا يمكنني أن أبعد عن رأسي صور الطائرات وهي تقصف المدنيين في حلب"مترو حلب، مها حسن، الصفحة 9، بالإضافة إلى الخوف من رجال الشرطة: "استغرق الأمر طويلاً منذ وصولي إلى فرنسا، لأكف عن الشعور بالذعر حين أرى رجلاً أو امرأة من الشرطة. لم أتوصل حتى الآن إلى الربط بين الأمان الذي يحققه رجال ونساء البوليس هنا، وبين سلب الأمان الذي يتسبب به (البوليس) في بلدي"مترو حلب، مها حسن، الصفحة 12.
حتى الأطفال لم يسلموا من الأزمات النفسية الناتجة عن سماعهم أصوات القصف والاشتباكات ومشاهدتهم حالة الموت والذعر في عيون الناس. أصبحوا يعتقدون أن الحرب هي الحالة الطبيعية للحياة وأن السلام هو حالة استثنائية. يقدم الطفل رامي مثالاً عن هؤلاء الأطفال الذين لن يستطيعوا ربما فيما بعد تخيّل الحياة بدون حرب. اعتاد رامي على أصوات القذائف وعلى صوت والدته سميرة تطلب النجدة من الجيران وعلى خوف الناس بشكل عام، وتأقلم بدوره مع ذلك، حتى أنه صرخ ذات مرة في وجه أمه وهي تحاول تهدئته مُطالباً: "بدي خاف!". وفي مرة انشغلت والدته عنه قليلاً لتعود وتصف ما يفعله: "لا أعرف كيف استطاع فتح رابط فيديو حين تركته لحظات وذهبت إلى الحمام، لأعود وأراه يضحك بمتعة أمام فيلم يوتيوب أخاف أنا في هذا العمر من مشاهدته: جثث محروقة ودماء متيبّسة على الجثث.."مترو حلب، مها حسن، الصفحة 72.
الخاتمة
في ختام رحلة استكشاف "مترو حلب"، نجد أنفسنا وسط عالم متشابك من التجارب الإنسانية المعقدة والمآسي الشخصية. من خلال شخصيات "مترو حلب"، نشهد عبوراً سلسلة من التحديات النفسية والانعزال والفقدان التي يواجهها الشخص المنفي. ومن خلال عين الكاتبة مها حسن، نجد أنها لا تفضل جانباً على آخر في سرد الأحداث، بل تقدم الحرب كإطار زمني للقصة، ومساحة تعبر عن المعاناة الإنسانية بكل أشكالها. في الختام، تتركنا هذه الرواية مع العديد من الأفكار والتأملات حول الإنسانية وأزماتها، وتذكرنا بأن الحرب ليست مجرد قصة مؤلمة، بل هي حقيقة مريرة يعيشها الكثيرون، ومن خلال الأدب يمكننا فهمها والتعبير عنها بشكل عميق وإنساني كي نشعر بالأمل والتضامن والقوة الإنسانية التي تنبع من خلف كل مأساة، ونجد أنفسنا مستعدين للنظر إلى العالم بعيون أكثر تفاؤلاً وفهماً.
المراجع
غربة الأنا وصدمة المكان في رواية "مترو حلب" للروائية مها حسن، د.ميس أبو زيادة
مترو حلب، مها حسن (سورية)، رواية - موقع اللغة والثقافة العربية (langue-arabe.fr)
فصام - ويكيبيديا (wikipedia.org)
تقنية العتبات في رواية -مترو حلب- لمها حسن الحوار المتمدن-العدد: 6550 - 2020 / 4 / 30
Pour citer cette ressource :
"رواية "مترو حلب" : رحلة البحث عن الانتماء والهوية في زمن الحرب", La Clé des Langues [en ligne], Lyon, ENS de LYON/DGESCO (ISSN 2107-7029), avril 2024. Consulté le 08/10/2024. URL: https://cle.ens-lyon.fr/arabe/litterature/contemporaine/riwayat-metro-halab-rihlat-al-bahth-ala-al-intimae-wa-l-huwiyya-fi-zamane-al-harb