صيتٌ في طيّ النّسيان: نور الدين عبّة
مقدمة
لا يخلو الأدب الجزائري وخاصة الفرنكفوني من أسماء عديدة تخطّت شهرتها حدود الجزائر وذاعت مؤلفاتها لتترجم إلى لغات عدة متحصلة بذلك على جوائز وأوسمة عربية وعالمية، فمن لم يقرأ الدار الكبيرة (1952) والحريق (1954) لمحمد ديب، نجمة (1956) لكاتب ياسين، الأفيون والعصى (1965) لمولود معمري وغيرهم.. روايات تناول فيها أصحابها حالة الشعب الجزائري إبّان فترة الاستعمار الفرنسي من جهة والتخبطات السياسية والظروف الاجتماعية التي تلت الاستقلال من جهة أخرى. ولا تقتصر هذه القائمة الأدبية على أسماء اشتهرت داخل الوطن وخارجه بل تضم أدباء سطع نجمهم خارج الديار في حين تم نسيانهم في وطنهم ومن بينهم نور الدين عبّة.
1/ حياته ونضاله السياسي
هو كاتب مسرحي وشاعر ومحاضر وناشط التزم بقضايا عديدة في بلد هزته حرب الاستقلال في الخمسينيات ثم التوترات السياسية المتعددة التي أدت إلى حرب أهلية في أوائل التسعينيات. يمثل نور الدين عبّة شخصية الكاتب الملتزم الناطق باللغة الفرنسية الذي يتحدى السلطة القائمة والجماعات التي تهددها من خلال تقديم العديد من القصائد والمسرحيات التي نشرت في فرنسا وقدمت على خشبة المسارح الفرنسية بينما لا تزال مجهولة أو منسية في الجزائر و الوطن العربي. ولعل ما يدفعنا للتطرق إلى هذا الأديب -بالإضافة إلى رغبتنا في تجاوز هذا النسيان أو التجاهل- هو التأمل في العمل الدرامي والإبداع المسرحي لكاتب جزائري ناضل على جميع الأصعدة من أجل أن يحظى بلده بالحرية والاستقرار.
ويهتم مقالنا بشكل خاص بالإنتاج الدرامي لنور الدين عبّة، ورغم أن دراسة مجمل أعماله مثيرة للاهتمام وضرورية للتغلب على هذا الإهمال الأكاديمي، إلا أننا مجبرون على الاقتصار على مسرحه والتساؤل إذا كانت هناك علاقة محتملة بين تجربة المؤلف وإبداعه المسرحي. فهل كان للأحداث العديدة التي هزت بلده الجزائر والشرق الأوسط وحتى أوروبا أي تأثير على الكاتب المسرحي؟ ما هي المواضيع التي ألهمته؟ وهل ينقل كفاحه من أجل الحرية وحقوق الإنسان على خشبة المسرح؟
ولد نور الدين عبّة يوم 16 فبراير 1921 بمنطقة "كولبر" سابقا المعروفة حاليا بعين ولمان بمدينة سطيف شرق الجزائر العاصمة، حيث تعرف على كاتب ياسين خلال تعليمه الثانوي ونشأت صداقة بينهما. لم يكد يبلغ من العمر عشرين عامًا حتى نشر عبّة أربع مجموعات شعرية ((لقد قمنا بترجمة جميع عناوين مسرحيات نور الدين عبّة والمقاطع المقتطفة منها، كما ترجمنا أقوال النقّاد الأدبيين والمتخصّصين الذين تطرّقوا لحياته ومسرحه.)) ("الفجر والحب"، "ما وراء الظلال"، "بوابات الشفق" و"ثمانية أساور للحنين") في أوائل الأربعينيات من القرن العشرين بدار نشر المثقفين بالمدينة الفرنسية "سانت إتيان". ولكن سرعان ما ترك قلمه جانبا. إذ تم تعبئة الشاعر الشاب والطالب في كلية الحقوق بجامعة الجزائر في أواخر الحرب العالمية الثانية للالتحاق بالجيش الفرنسي بين عامي 1943 و1945. وبعد عودته إلى الحياة المدنية استقر عبّة في باريس واتجه إلى الصحافة ((قام عبة الصحفي خلال هذه الفترة بتغطية محاكمة "نورنبيرغ" 1945-1946 التي عقدتها قوات الحلفاء ضد كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين وقادة ألمانيا النازية المشتبه في ضلوعهم في جرائم الحرب. سيستلهم نور الدين عبّة من هذه المحاكمة قصة مسرحيته "آخر يوم في حياة نازي"(1982).)).
بعد استقلال الجزائر سنة 1962، عاد الكاتب إلى الساحة الأدبية عام 1963 بمجموعة شعرية جديدة تحمل عنوان "أحاجيّ يوم القديسين" La Toussaint des énigmes، كما قدّم العديد من المسرحيات التي عُرضت على خشبة مسارح باريس أو تم بثها على القناة الفرنسية الثقافية France Culture وإذاعة فرنسا الدولية Radio France Internationale ومكتب البث الإذاعي والتلفزيوني الفرنسي O.R.T.F.
2/ أهم أعماله
عاد الكاتب إلى وطنه في أواخر السبعينيات إذ أسندت إليه مهمة مستشار لوزير الثقافة والإعلام سنة 1977 وبين أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات درّس عبّة وألقى محاضرات في الجامعات الأمريكية والكندية كما قام بجولات عالمية بين مختلف الأكاديميات للتعريف بالأدب الجزائري المكتوب باللغتين العربية والفرنسية. ليبلغ بذلك العمل الأدبي لنور الدين عبّة حوالي الخمسة والثلاثين عنواناً مقسّماً بين مجموعات شعرية ومقالات وقصص قصيرة ومسرحيات وبرامج إذاعية ومؤتمرات ومناظرات أدبية.
من بين مسرحياته:
المكسب من الهزيمة (1952)
زرياب الساحر (1953)
فجر القدس (1979)
استراحة المهرجين (1980)
الإعلان "لماركو" أو غياب التاج عند الفجر (1981)
صمت تل الزعتر عند الغسق (1981)
آخر يوم في حياة نازي (1982)
النافذة السقفية (1986)
شجرة الزمرد (1986)
حلقة العصافير الدائرية (1986)
الشجرة التي أخفت البحر (1992)
الرجاء الكبير أو أغنية الأرض المفقودة (1994)
الإعدام عند برج الجرس (1995)
يوم وصول الراوي (1996)
ومن القصائد التي ألفها نذكر:
"مونتجوي" فلسطين! أو العام الماضي في القدس (1967)
غزالة بعد منتصف الليل (1979)
صبرا وشتيلا، كان ذلك بالأمس (1982)
غزالة الصباح الباكر (1983)
نورس يا نورسي لكيلا ننسى (1984)
وجزائر الملوك يا سيدي؟ (1984)
كطائر مطارد (1994)
أمقت القطارات المنطلقة من "أوشفيتز" (1996)
ومن القصص القصيرة نجد:
نجمتان في سماء الجزائر العاصمة (1979)
الغزالة الضائعة (1979)
الحمير الأربعة والسنجاب (1982)
المدينة التي يفصلها النهر (1994)
ومن مقالاته:
رسالة إلى المثقفين الجزائريين (1969)
وبالإضافة إلى كونه كاتبا، يعتبر نور الدين عبّة ناشطا سياسيا إذ وبالرغم من بعده عن الجزائر لسنوات لم يكف فيها عن المطالبة بحرية وطنه وشعبه. فقد انضم الكاتب إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية وهو حزب قومي جزائري تأسس عام 1946 - برئاسة مصالي الحاج - والذي انبثقت منه جبهة التحرير الوطني FLN سنة 1954. كما أصبح بداية الستينيات مساهما في مجلة "الحضور الأفريقي" Présence africaine التي يديرها مثقفون أفارقة ناطقون بالفرنسية من باريس.
شغفه الأدبي وحرصه على تشجيع المواهب والإبداعات في الجزائر دفعه لإنشاء عام 1990 مؤسسة تحمل اسمه تهدف إلى مكافأة الفنانين والمثقفين الجزائريين لمساهمتهم في الترويج للثقافة والأدب الجزائري وذلك بالرغم من الفترة العصيبة التي يعرفها البلد. توفي نور الدين عبّة في باريس يوم 19 سبتمبر 1996 ((هذه النبذة الوجيزة عن سيرته الذاتية مقتبسة من أعمال عبد العلي مرداسي "مؤلفون جزائريون ناطقون بالفرنسية في الفترة الاستعمارية: قاموس السيرة الذاتية"، باريس، دار النشر "لارماتان"، 2010 ومن "موسوعة الأدب الأفريقي"، حرره "سيمون جيكاندي"، لندن، "روتليدج"، 2003.)) تاركا بصمته الأدبية وفكره الإنساني.
3/ مسرح نور الدين عبّة: بين القضايا السياسية والإنسانية
أزمات الجزائر
يرفض نور الدين عبّة في عمله الأدبي أن يصنف اسمه ضمن قائمة الأدباء الداعمين للاستعمار أو المدافعين عنه. فقد شهدت كتاباته خيبة الأمل الهائلة من التواجد الفرنسي وممارسات جيشه خلال حرب الجزائر التي اندلعت سنة 1954. ومثلما لاحظه الباحث إبراهيم وردي ((إبراهيم وردي هو أستاذ وباحث بجامعة سعَيدة (الجزائر) صاحب أطروحة دكتوراه ناقشها في جامعة وهران (الجزائر) عام 2009 والمعنونة: الكتابة والمسرح والالتزام في مسرح "هنري كريا" ونور الدين عبّة. وهي تعتبر من الدراسات النادرة التي تطرقت إلى هذا الكاتب، ولكنها لا تهتم بمجمل إنتاجه الدرامي بل تركز على مسرحية واحدة للمؤلف وهي "استراحة المهرجين.")) فقد "كتب [عبّة] معظم أعماله واستمدها من الوضع المأساوي والدرامي للبلد ولكنه رفض نشرها أو إنتاجها حتى لا يزعج الفرنسيين الذين كان قريبًا منهم مثل "غابرييل أوديسيو" و"بيير بلانشارد" و"ألبير كامو" والذي كانت لديه آراء مختلفة عن آراء عبّة حول هذا الموضوع ((إبراهيم وردي، مقال "نور الدين عبّة (1921-1996): رحلة كاتب ملتزم" مأخوذ من كتاب "فنانون ومثقفون من مدينة سطيف"، العربي ردبي، باريس، دار النشر "لارماتان"، 2014، عدد الصفحات 45-54، صفحة 46.))". ولكن يبدو أن الألم الذي شعر به المؤلف الجزائري إزاء وطنه كان أشد من الألم الذي يمكن أن يسببه لأصدقائه الفرنسيين. إذ قرر كتابة وإنتاج مسرحيات تترجم المعاناة والحزن الذي نتج عن هذه الحرب فقدّم مواضيع استنكارية تتهم بصفة صريحة ممارسات الجيش الفرنسي في الجزائر.
وهذا ما نلتمسه في مسرحيته "استراحة المهرجين" (1980) التي قرر كتابتها بعد فقدانه -تحت وقع التعذيب- لصديق له يمتهن المحاماة. هذه المسرحية المكونة من أربع لوحات هي تنديد ضد الممارسات اللاإنسانية التي تتعرض لها الشعوب المحتلة وهي انتقاد واضح ضد جميع الجلادين أيًا كانوا. إذ يشرح المؤلف اختياره لهذا الموضوع بقوله: "لقد كتبت هذه المسرحية دون كراهية، ليس لتوجيه اتهام ضد فرنسا، ولكن ضد كل أولئك الذين يمارسون التعذيب في جميع أنحاء العالم ((صحيفة "برقية بريست" العدد الصادر يوم 5 أبريل 1982.))". مقدمة المسرحية تشهد على صحة الحقائق التي تم سردها: "الشخصيات في هذه المسرحية ليست خيالية بل هي موجودة بالفعل والحقائق المتعلقة بالتعذيب صحيحة. لقد قمت فقط بإجراء بعض التعديلات التي سيكتشفها القارئ الذكي بسهولة ((نور الدين عبّة، استراحة المهرجين، "باريس"، دار النشر "غاليلي"، 1980، ص 10 .))".
قام عبّة بخلق مسرح داخل المسرح حيث تدور الأحداث خلال حرب الجزائر في إحدى الأمسيات بالجزائر العاصمة، إذ قدّم ثلاثة مظليين عرضًا مسرحيًا خلال حفل نظمه الجيش الفرنسي حيث يقوم المظليون الذين يخفون هويتهم في البداية بأداء أدوار المهرجين وتظهر على المسرح لعبتهم المفضلة للمتعة والتسلية والمتمثلة في شاب جزائري اسمه رشيد. ظهر مكبل اليدين لأنه مشتبه به في وضع قنبلة في مكان عام في الجزائر العاصمة. ويطلب المهرجون من المتهم الكشف عن اسم المكان المستهدف قبل انتهاء المهلة التي فرضت عليه. سيتذوق الشاب المهندس جميع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي على المسرح من صعقات كهربائية إلى محاولات اغتصاب وإغراق بالماء وهو ما تترجمه تهديدات الضابط الفرنسي:
عندما أضعها [مؤخرتي] على وجهك العربي القذر، ستندم على ولادتك أيها النتن ولا تتخيل أنه لحاف سأضعه على وجهك! محو شخص بهذه الطريقة هو فن في حد ذاته، وكم من خنزير محوته من الخريطة لأنني اكتسبت التقنية الصحيحة مع مرور الوقت ((نفس المصدر السابق ص 95.)).
ويترك الكاتب في آخر المسرحية لقارئه فرصة تخيل النهاية الدرامية إذ يعترف الشاب رشيد بمكان القنبلة، فقد وضعها داخل زجاجة الخمر كان المهرجون على وشك فتحها. يقدم هنا نور الدين عبّة مسرح الازدواجية من خلال المواجهة بين الجلاد والضحية، المستعمِر والمستعمَر، القوي والضعيف، العسكري والمدني، الفرنسي والعربي. ويعرض الكاتب هذه الشخصيات من أجل التنديد بالممارسات اللاإنسانية من جهة ومن أجل تمثيل العلاقة الشائكة الموجودة بين الشعبين من جهة أخرى. إذ يؤكد على استحالة التوافق بين شعب يدافع عن أرضه وآخر يفرض نفسه بالقوة.
وفي مسرحية "إعلان ماركو أو غياب التاج عند الفجر" (1981) يكشف نور الدين عبّة عن سياق مماثل من العنف والنزاعات. تتألف المسرحية من خمسة فصول وتسعة مشاهد يعرض فيها الحياة اليومية للفرنسيين والجزائريين سنة 1957. تدور الأحداث في قرية صغيرة يبدو أنها هادئة لا تعرف اشتباكات ولا عنف ولا كراهية. ولكن التفاهم والتناغم بين الشعبين لن يدوما طويلاً بسبب حادثة وقعت بمزرعة قريبة من القرية والتي ستغير كل المعطيات. إذ سيتهم "ماركو" المجاهدين الجزائريين ((الذين عرفوا باسم الفلاقة (Fellaga) )) المتواجدين بالجبال بذبح صديقه فيكتور:
ألا تصدق يا سيد بيريز أن فيكتور قد قُتل؟ هل تعتقد أنني، أنا ماركو، صديقه المفضل سأنشر مثل هذه الإشاعة إذا لم يكن ميتًا؟ ... لقد رأيت عشرة منهم يسقطون على فيكتور المسكين! عشرة فلاقة قطعوا حنجرته! ((مسرحية الإعلان لماركو، باريس، "لارمتان" 1981 ص 35.))
كما يضيف "ماركو" أنه شاهد في المزرعة صناديق من الأسلحة تابعة للفلاقة. ما أدلى به الشاب الفرنسي صحيح بخصوص الأسلحة وأصحابها، أما بالنسبة لصديقه القتيل فقد ألّف ذلك. إذ أن فيكتور لم يُقتل، بل تم أسره. ويبدأ من هنا التوتر بين المجموعتين حيث سيرفض الجزائريون هذا الاتهام بينما سيؤيده الفرنسيون. في الفصل الثاني من المسرحية، تحاول المجموعة الأولى إيجاد حل لإخفاء المخبأ وإخلاء الصناديق، بينما تقوم المجموعة الثانية بحراسة المزرعة. ويصبح الوضع أكثر تعقيدا عندما يقوم الفلاقة بقطع خطوط الهاتف عن القرية ومنح سكانها إنذارا لإخلاء المستودع وإلا سيعدم الأسير.
الوفاق الذي وصفه الكاتب في بداية المسرحية كان مجرد وهم. إذ يوضح نور الدين عبّة أن الكراهية بين هاتين المجموعتين لا زالت دفينة وأي حادث يمكن أن يوقظها ويجعلها تطفو على السطح من جديد. اتفق الطرفان على الإتيان بطبيب القرية الجزائري "زيزو" لحل الأزمة والذي هو على اتصال دائم بالفلاقة. ولكن ظهوره سيعقد الأمور. إذ عند اقتراحه تدمير المستودع وتبادل الأسرى اتهم الطبيب من طرف الجزائريين -الذين يفضلون المواجهة والسعي إلى التحرر- بالخيانة والانحياز للفرنسيين. لم يستطع أحد إيجاد حل لفض النزاع. حيث يسمع في الفصل الأخير "صوت انفجار مدفع رشاش" والذي يعلن عن بدء الصراع. من خلال هذه المسرحية يروي عبّة حقائق غير قابلة للتغيير. فالتوتر بين الجزائريين والفرنسيين أو ما يسمى بالأقدام السوداء ((هم الفرنسيون الذين ولدوا بالجزائر إبان فترة الاستعمار.Les pieds-noirs)) كان منتشرا في المدن والقرى والنضال من أجل الحرية واستعادة الأرض يمنع أي صداقة أو تعايش بين المجموعتين. يكشف نور الدين عبّة من خلال مسرحياته عن المعاناة التي يعيشها الشعب يوميًا في مواجهة الممارسات القاسية أحيانًا للمستعمرين. وسواء كانوا جنودا، مستوطنين، أو أقداما سوداء، فإنهم يسيئون معاملة "العرب" كما يسمونهم. فهذا العرق يشكل بالنسبة لهم موضع كراهية ومهانة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التعايش معهم.
ويواصل الكاتب من خلال قلمه التنديد بكل أنواع العنف والصراعات التي عرفها بلده، فقدم مسرحيات تطرق من خلالها لمسألة العشرية السوداء فتناول مواضيع عدة كالتعصب الديني واغتيال المفكرين والصحفيين. ومن بين هذه المؤلفات نجد مسرحية "يوم وصول الراوي" (1996) حيث تدور أحداثها خلال سنوات التسعينيات. إذ يظن الحكواتي الذي يعود إلى أرضه بعد غياب ثلاثين عاما أنه سيجد شعبا حرا يتمتع بكامل حقوقه في بلد ديمقراطي، إلا أنه يكتشف أرضا شبيهة بالمملكة يتنازع عليها الخلفاء والأمراء (رجال السياسة والدين). تبدأ حبكة المسرحية عندما تصل بائعة زهور خائفة إلى الشخصيات لإخبارهم بالمشهد الرهيب الذي شهدته للتو، قتل شابان في مقهى على يد رجل ملتحٍ. ويختار هنا نور الدين عبّة التنديد بالتعصب الديني من خلال الإشارة إلى النموذج الذي ألهم الطائفة الدينية في الجزائر وهي الثورة الإسلامية الإيرانية. إذ يواجه في المسرحية الحاج شخصية الأمير ويخبره بعدم رضاه واشمئزازه من هذا الوضع قائلا:
أنتم لستم رجال الله!! […] النظام الذي تريدون إقامته في الجزائر أمر غير طبيعي! […] أخبروني ما فعله آيات الله والملالي بإيران بسببهم صار الشعب أبكم كطيور البطريق وأصبحت النساء مشوهات ((نور الدين عبّة، مسرحية يوم وصول الراوي، باريس، دار النشر الرياح الأربعة، 1996، ص 46.))!
وعلى الرغم من البعد المأساوي للمسرحية إلا أن نور الدين عبّة حاول إضافة لمسته الكوميدية وذلك لمزيد من السخرية من هذه الفئة من رجال الدين. حيث عند رؤية الأمير للشخصيتين عزيز و"كولومب" وهما يتعانقان، فقد الأمير صوته حرفياً وقاطع خطابه الديني:
في هذه اللحظة، كان الأمير ينظر إلى" كولومب" وعزيز وهما يقبلان بعضهما البعض. رفع يده بطريقة آلية للإشارة إلى الزوجين ثم قال وهو يتلعثم:
الـ...الـ...الشر...الشيطان...
التاجر:
ماذا؟ هل تتلعثم الآن؟
بائعة الزهور التي تابعت لفتة الأمير:
يا إلهي! مشهد الزوجين يزعجه!
التاجر:
لم أكن لأسمح بذلك لو اختلفت الظروف، ولكن في هذه الحالة، أنا سعيد لأنها تقبله أمام العالم!
الأمير الذي لا يزال يتلعثم:
الـ...الـ...الشر!
باية:
لما هذه التأتأة؟
الراوي:
إنه عصبي. من شدة الصدمة أصيب بالحُبسة الكلامية (( نفس المصدر السابق، ص 49.)).
حاول عبّة تقديم عينة من الضغوطات والمعاناة التي عاشها أبناء وطنه خلال هذه الفترة المظلمة والتي اعتبرت فيها الحرية والعلم والمعرفة من المحرمات. وسعى من خلال مسرحه إلى تحدي هذه الأيديولوجيات التي قادت البلاد نحو الفوضى. ولم تقتصر مسرحياته على أزمات الجزائر فحسب، بل دعم مختلف الشعوب المضطهدة في العالم.
القضية الفلسطينية
تأثر نور الدين عبّة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فقد رافق الشعب الفلسطيني الكاتب في ذهنه ومخيلته وحتى خلال أحاديثه ومقابلاته حينما صرح ذات مرة: "إنها لمعاناة فظيعة أن يعرف الإنسان أنه لم يعد يستطيع الاعتماد على أحد. هذا هو حال الشعب الفلسطيني الذي لا يمكنه الاعتماد إلا على نفسه وفقط. ليس لديه شيء آخر فالفقراء ليس لديهم شيء ((دينيس بارات، "مقابلة مع نور الدين عبّة، شاعر بالمرصاد"، في مجلة "أسبوع الهجرة"، عدد 84، 2 مايو 1984، ص 12.))." فقرر مع الكاتب "جاك دومال" تأسيس جمعية أسماها "الوجود الفلسطيني" هدفها إيجاد أرضية مشتركة تسمح للشعبين (الفلسطيني والإسرائيلي) بالتوصل إلى اتفاق وضمان التعايش والتآخي بين الشعبين على الأرض المقدسة. كجزء من هذا المشروع، قام نور الدين عبّة بزيارات إلى العديد من الدول العربية مثل مصر والأردن وسوريا ولبنان حيث عقد مؤتمرات حول هذه المسألة. وصمدت الجمعية، التي ذمّها الإسرائيليون وشوه سمعتها العرب، من أجل البقاء خاصة في ظل غياب الإعانات. ولكنها سرعان ما اختفت. وكل ما بقي للكاتب هو قلمه وكفاحه الفكري لدعم الشعب الفلسطيني المهمل من قبل العديد من الحكومات العربية حسب رأيه. وفي إحدى المقابلات، أعرب عبّة عن ألمه لهذا الوضع:
وبقدر ما تكون الجزائر نوري، فإن فلسطين هي غضبي، لأن الفلسطينيين كانوا ضحايا
لأضخم إنكار للعدالة سجله التاريخ على الإطلاق ((ر. كروم، ن. عبّة، "بين النور والغضب"، في مجلة أخبار الجزائر، عدد 717، 18 جويلية 1979، ص 22.)).
بعد عودته من زيارة الأراضي الفلسطينية سنة 1967 شجع الكاتب مواطنيه على الانضمام إليه في هذا العمل. إذ حثَّ في رسالة موجهة إلى المثقفين الجزائريين على التحدث عن هذا الصراع والتضامن مع الشعب الفلسطيني: "أفكر فيك يا محمد ديب ويا مالك حداد، رفقائي في أوقات الغضب؛ وفيك يا كاتب ياسين وفي الساعات التي قضيناها نتحدث عن أسرارنا، وأفكر فيك يا مصطفى الشريف وفي مناقشاتنا الطويلة حول مستقبل الجزائر ((نور الدين عبّة، رسالة إلى المثقفين الجزائريين، باريس، جمعية الحضور الفلسطيني، 1967، ص. 3.))". ومن أجل إقناعهم، أكد عبّة على الدور الذي يجب أن يلعبه المثقف في مثل هذه الظروف حيث: "هناك حقائق يجب أن تُقال وواجب يجب إنجازه. وليس لدينا الحق في الهروب منه لكيلا يلومنا أحفادنا على تقاعسنا ((نفس المصدر السابق، ص 14.))". ويروي عبّة بعضا من هذه الحقائق في قصائد درامية ومسرحيات نظمها بعد عودته من فلسطين مثل "مونتجوي" فلسطين! أو العام الماضي في القدس (1968)، "الفجر في القدس" (1979)، "تل الزعتر كان صامتا عند الغسق" (1981)، "صبرا وشتيلا، كان ذلك بالأمس" (1982).
وتجمع مسرحية "الفجر في القدس" (1979) عدة شخصيات تلعب أدوارًا مرتبطة بالوضع الفلسطيني وهي مسرحية أهداها الكاتب لذكرى محمود الهمشري ((دبلوماسي فلسطيني، كان أول سفير لمنظمة التحرير الفلسطينية بفرنسا.)) وعز الدين كلك ((هو مدير مكتب الإعلام والاتصال التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في باريس.)). ومن بين هذه الشخصيات أبو جورج، أبو يحيى، ابراهيم، صاحب السمو (ممثل صاحب الجلالة البريطانية)، صاحب السعادة (ممثل الولايات المتحدة الأمريكية)، ملكة جمال أوروبا، "أهاسفيروس" (اليهودي المتجول). يضع الكاتب أحداث مسرحيته في مخيم للاجئين الذين يصفون صعوبة الحياة فيه:
نحن في عالم منفصل ومنسي من قبل العالم.
نموت أكثر فأكثر كل يوم
في الغضب والعجز (( نور الدين عبّة، الفجر في القدس، الجزائر، دار نشر S.N.E.D (الشركة الوطنية للنشر والتوزيع)، 1979، ص 19.)).
ويتهم الكاتب المسرحي من خلال أقوال وردود أفعال شخصياته صمت العرب والغرب إزاء هذا الصراع. فينقل الحقائق والشهادات التي عاشها خلال رحلته إلى الأراضي الفلسطينية. ومع ذلك، فإن صرخة التحذير التي يطلقها المؤلف الجزائري لا تحمل بالضرورة كراهية أو ازدراء. ففي بداية قصيدته "مونتجوي" فلسطين! أو العام الماضي في القدس (1967)، يهدي عبّة إلى "ابنيه هذه الصفحات المكتوبة عن مصيبة شعب لا لحبس أنفسهم في الكراهية، بل للتحرر منها" ((نور الدين عبّة، "مونتجوي" فلسطين! أو العام الماضي في القدس، مدينة "هنفلات"، دار نشر "بيير جان أوزولد"،1970 ص 17.)) فهو يعارض كل أشكال الاضطهاد والتعذيب والظلم وسوء المعاملة بغض النظر عن الأصل أو العرق أو الدين. ورغم أنه كتب العديد من القصائد والمسرحيات التي ندد فيها بالمعاناة الفلسطينية، إلا أنه لم يستثني اليهود من كتاباته الدرامية. إذ ألهم الشعب الذي استبد به الألمان بسبب انتمائه الديني (الكاتب الجزائري على خشبة المسرح).
اضطهاد اليهود
لا يستبعد مسرح نور الدين عبّة أي موضوع مرتبط باضطهاد الشعوب مما يشير إلى وجود النزعة الإنسانية في مؤلفاته. إذ تشهد كتابات هذا المثقف الإنساني على محبته وعطفه على جميع البشر دون استثناء، بغض النظر عن عرقهم أو دينهم أو ثقافتهم. فبعد حضوره لمحاكمات "نورنبيرغ"، شهد عبّة عن كثب الفظائع التي ارتكبها النازيون ضد اليهود. فتناول هذا الموضوع على خشبة المسرح لأول مرة عام 1982 من خلال مسرحية "آخر يوم في حياة نازي" ثم "الإعدام عند برج الجرس" عام 1995 وهو الأمر الذي لم يفاجئ معاصريه فهو يحظى بالتقدير بفضل إنسانيته والقضايا العادلة التي يدافع عنها. في مسرحية "آخر يوم في حياة نازي" (1982) تقع الأحداث في أبريل 1945، في مدينة ألمانية تعيش غارات جوية خلال احتضار الرايخ الثالث. يتهم عبّة على لسان شخصية "مارتا" (زوجة جنرال نازي سابق) هتلر وأتباعه وما نتج عن سياستهم:
شعب واحد، رايخ [امبراطورية] واحد، فيورر[قائد] واحد! كل النفوس يمتلكها هذا الشخص صاحب رؤية: دعونا نطرد اليهود! دعونا ندنس الكنائس! دعونا نحرق الكتب! لقد غرقت أغلى ثرواتنا "غوته"، و"شيلر"، و"برامز"، و"بيتهوفن"، وفقدنا أجسادًا وممتلكات، وصرنا حطامًا في البحر! […]
لقد هُزِم الوحش الذي التهم أوروبا، فهل تريد مني أن ألتزم الصمت؟ على العكس من ذلك، إنه يوم الابتهاج أخيرًا، سنكون قادرين على فتح النوافذ، وإبعاد القلق والاشمئزاز! سنكون قادرين على الضحك والغناء والمشي دون خوف من السحق، سنتمكن من الإشارة إلى القتلة والبصق عليهم! ((نور الدين عبّة، "آخر يوم في حياة نازي"، باريس، دار النشر "ستوك" ، 1982 ص 26/28.))
وتتابع عندما تتذكر جيرانها:
كيف يمكنني نسيانهم؟ ألقت السيدة " ويسلر" المسكينة بنفسها تحت القطار، بعد أيام قليلة من ترحيل زوجها وابنها المتهمين... لم أعد أتذكر السبب. في الواقع، كان ذلك لأنهم كانوا يهودًا. ((نفس المصدر السابق ص 31.))
ينتقل عبّة عبر أحداث المسرحية بتشويق لا نهاية له، ويغرق المشاهد في عالم الرايخ الثالث المظلم والكئيب حيث الحرب، والخداع، والتعذيب، والوحشية. ومن خلال هذه القصة، يخوض الكاتب معركة عالمية ضد النازية، وترحيل اليهود، والمعسكرات، وغرف الغاز.
خاتمة
نجح نور الدين عبّة في نقل كفاحه من أجل الحرية وحقوق الإنسان على خشبة المسرح. اختياره لتمثيل المواضيع السياسية والاجتماعية كالاستعمار والتعصب الديني والاضطهاد والتعذيب على الصعيدين الوطني والدولي يضفي على مسرحه بعدا عالميا. فهو حامل لأصوات المثقفين والصحفيين والضحايا والشعوب المستبدة، يكتب الحقيقة مهما كانت مظلمة ومأساوية. كلماته الدرامية تحمل إدانة وتحررًا في نفس الوقت. أعماله ليست مظلمة وحزينة فحسب، بل تتسم بالتفاؤل والطمأنينة. فبالرغم من التعذيب والجرائم والظلم والانتهاكات التي يقوم بها الانسان، يؤمن الكاتب بقدرة هذا الظالم على التغير بفضل بذرة الخير والإحسان التي بداخله. مسرح عبّة هو دعوة حقيقية للتسامح والتعايش والتغلب على الحقد والكراهية بين البشرية. ما أراده عبّة هو التنبيه والتحذير من الانتهاكات التي يمارسها الأقوياء على الضعفاء في جميع أنحاء العالم. ومن خلال الأسلوب الدرامي والعاطفي تمكن عبّة من جعل قارئه يتأمل في مثل هذه القضايا الوجودية. فشعاره إيقاظ العقول وتوجيهها وتنويرها لتحقيق مستقبل أفضل للإنسانية. وهكذا أثبت نور الدين عبّة الشاعر والروائي والكاتب المسرحي والمفكر والناشط السياسي نفسه بلا منازع باعتباره صاحب رؤية حقيقية ونزعة إنسانية.
الحواشي السفلية
فهرس
بارات، دينيس، (2 مايو 1984). "مقابلة مع نور الدين عبّة، شاعر بالمرصاد"، مجلة "أسبوع الهجرة"، عدد 84
عبّة، نور الدين، (1967). رسالة إلى المثقفين الجزائريين، باريس، دار نشر جمعية الحضور الفلسطيني.
للمؤلّف نفسه، (1970). "مونتجوي" فلسطين! أو العام الماضي في القدس، مدينة "هنفلور"، دار نشر "بيير جان أوزولد".
للمؤلّف نفسه، (1979). الفجر في القدس، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.
للمؤلّف نفسه، (1980). استراحة المهرجين، "باريس"، دار النشر "غاليلي".
للمؤلّف نفسه، (1981). الإعلان لماركو أو غياب التاج عند الفجر، باريس، "لارمتان".
للمؤلّف نفسه، (1982). آخر يوم في حياة نازي، باريس، دار النشر "ستوك".
للمؤلّف نفسه، (1996). يوم وصول الراوي، باريس، دار النشر الرياح الأربعة.
ر. كروم، ن. عبّة، (18 جويلية 1979). "بين النور والغضب"، في مجلة أخبار الجزائر، عدد 717.
مرداسي، عبد العلي، (2010). مؤلفون جزائريون ناطقون بالفرنسية في الفترة الاستعمارية: قاموس السيرة الذاتية، باريس، دار النشر "لارماتان".
وردي، إبراهيم، (2014). مقال "نور الدين عبّة (1921-1996): رحلة كاتب ملتزم" مأخوذ من كتاب "فنانون ومثقفون من مدينة سطيف"، باريس، دار النشر "لارماتان".
(2003). "موسوعة الأدب الأفريقي"، حرره "سيمون جيكاندي"، لندن، "روتليدج".
الجوائز
1979، جائزة البحر الأبيض المتوسط الأفريقية لـ "غزالة بعد منتصف الليل" و"الرجاء الكبير أو أغنية الأرض المفقودة".
1981، جائزة الصداقة الفرنسية العربية لـ"صمت تل الزعتر عند الغسق".
1982، جائزة أفضل كتاب ترفيهي للشباب عن رواية "الحمير الأربعة والسنجاب".
1985، جائزة "شارل أولمونت" من مؤسسة فرنسا عن مجمل أعماله.
1991، الميدالية الكبرى من الأكاديمية الفرنسية.
1992، جائزة الفرنكوفونية من جمعية المؤلفين والملحنين المسرحيين.
1994، شهادة شرف من المركز الدولي للدراسات الفرنكوفونية.
Pour citer cette ressource :
Amina Kharrouby, صيتٌ في طيّ النّسيان: نور الدين عبّة, La Clé des Langues [en ligne], Lyon, ENS de LYON/DGESCO (ISSN 2107-7029), décembre 2025. Consulté le 20/12/2025. URL: https://cle.ens-lyon.fr/arabe/litterature/contemporaine/sayt-fi-tay-al-nisyan-nourredine-aba


Activer le mode zen