الأسطورة الأخروية في رسالة الغفران - الجزء الثاني
مقدمة
يعتبر المكان في رسالة الغفران المشكّل الرّئيسيّ لسيرورة المغامرة القصصية لأنه جعلها تنتظم في وحدة مغلقة تلتقي فيها البداية بالنهاية ولا تشكل فيها المرحلة الوسطى أكثر من فترة مؤقتة لأنها انتقالية، لذلك اقترن مكان الفردوس ومكان الافتتاح والاختتام ببعضهما. فهما الثابت الباقي وما دونهما متحول فان. ما المكان إذن إلاّ خلاصة الرؤية الزمنية التي تحويها الرسالة. وقد اقترنت كل السياقات التي تمحور فيها الحديث حول هذا المكان بنشاط عقلي وشعري مكثف عماده التأمل الطويل والتفكير العميق في نُتَفِ الشّعراء القدامى وقصائدهم.
وتدل هذه المفارقة على أن هذا المكان قابل للإدراك العقلي من خلال ما يتركه من بصمات في حياة الانسان. والعبرة الحقيقية في ذلك الإدراك ذاته إنّما لِما ينطوي عليه من المعاني النسبية. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعلم أنه فان ويعلم أنه سيبعث حتما.
ومن الخاصيّات الأخرى لهذا المكان أنه مطلق ودوري. أمّا صفة مطلق فلعدم اختصاصه بإنسان دون آخر وزمان محدد. وإنما هو قدر الأحياء حيثما كانوا. لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر أو الأعجمي والعربي. أمّا صفة دوريّ فلأنّ دوراته تتكرر وتتعاقب على الحياة البشرية تعاقُبَ الليل والنهار وتعاقُبَ الأيام والفصول والأعوام بلا انقطاع وما كل دورة من دوراته إلّا فترة من الزمن وجيزة.
ثانيا - تجليات الأسطورة الأخروية في رسالة الغفران (تتمة)
ــ تجليات الأسطورة الأخروية في فضاء رسالة الغفران
لقد انتهينا إلى أن الزمن الموضوع زمنان متداخلان كلاهما يستدعي الآخر بما له من ميزات وخصائص كما أنهما غير متكافئين من حيث الوظيفة لأن زمن الراوي يعد في الرسالة غاية المغامرة يراد من خلاله الكشف عن التحولات النوعية التي عاشها المجتمع العربي في أواخر القرن الرابع وبداية القرن الخامس هجري. في حين أن زمن القارح المتمخض عن العالم الآخر كان ينظر إليه على أنه مجرد زمن مساعد في الوصول إلى تلك الغاية وقد ترجم ذلك من خلال فضاء المغامرة. فهناك تداخل بين الرسالة الأدبية والقصة الخيالية من خلال المكان ((خلال فضاء المغامرة. فهناك تداخل بين الرسالة الأدبية والقصة الخيالية من خلال المكان)). ولم يكتف المعري بالشعر بصفته نوعا فنيا ولا بالرسالة المطولة بصفتها نوعا فنيا، بل راح يبحث عن قالب جديد هو القصة الخيالية وذلك من خلال الرحلة إلى العالم الآخر((عبد المالك فجور، القصة ودلالتها في رسالة الغفران وحي بن يقظان، ط1، 2009، ص. 254)).فخلق بذلك مكانا أسطوريا عبر فضاء العالم الآخر بفردوسه وجحيمه. "يعتبر أبو العلاء في نثره مرحلة قائمة بنفسها... وخرج إلى مذهب التصنع الجديد [...]. لم يصنع أبو العلاء كوميديا إلهية، بل أثّر بها أيضا تأثيرا عميقا في الآداب العالمية ((شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي الحديث، دار المعارف، القاهرة، ط10.)).
إن اشكالية رسالة الغفران إذن اشكالية مكانية، اعتمد الكاتب في بسطها منهج الموازنة بين عالمين: عالم الدنيا أو الدار العاجلة وعالم الآخرة أو الدار الباقية. تعتبر الرحلة أكثر من مجرد إطار تبرير ظاهره البعث. فهي في نظرنا متصلة غاية الاتصال بعاملين موصولين بغرض الرسالة: أولا تقييم الجانب العقائدي وثانيا تقييم الجانب الأدبي في الفترة التي عاشها المعري. لهذا فقد اختار الراوي أن يلتقي بطله بشخوص في الجنة بدرجاتها وأخرى بالنار بدركاتها. فالجنة والنار عالمان حقيقيان لمن يؤمن باليوم الآخر لكنها عالمان يعجان بالأساطير في الرسالة. ولعل المعري كان متفطنا لذلك فاستعمل أسلوبا انتشر في زمانه وهو الاستشهاد او الاقتباس في بعض الأحيان. كان يذكر الآية كي يطمئن القارئ المؤمن في تلك الفترة لكنه يضع ما شاء من أساطيره. وهذه بعض الأمثلة في الرسالة.
ففي رحلته يشرب ابن القارح من أنهار العسل: " يعارض تلك المدامة أنهار من عسل مصفى ما كسبته النحل. ولكن قال له العزيز القادر: "كُن". فكان. واهًا لذلك عسلا لو جعله الشارب المحرور غذاءه طول الأبد ما قُدر له عارض موم ولا لَبس ثوب المحموم. وذلك كله بدليل الآية: مثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ((أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، سبق ذكره، صص. 152ــ154)).
يقدّم السارد الآية 15 من سورة محمد كدليل ـ كما ذكر ـ على وجود هذه الأنهار. يتفنّن أبو العلاء المعري في وصف منافع هذا العسل وكأنّه ذاقه حقيقة، مستشهدا بآية قرآنية. يظهر هنا تناص ائتلاف، حيث نكشف مدى اِنعكاس مشاهد الجنة في القرآن في رسالة الغفران. لكن المعري لا يكتفي بالاِقتباس فحسب، بل يضيف ما شاء مستعملا الآية القرآنية ظهر مجنّ أمام كلّ ناقديه. وهنا يظهر نوع آخر من التناص وهو تناص الاِختلاف((اُنظر عن موضوع التناص سلام سعيد، التناص التراثي، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 2010، ص. 122))الذي زخرت به الرسالة في كل مضامينها. ونجد ذلك مثلا في تحريم الخمر على الأعشى رغم أن شربه من نعيم الجنة، ومشاهد الحلب والقنص في الجنة التي لم يذكر شيء عنها في القرآن. وهذا النوع من التناص هو حصّة الأساطير في رسالة الغفران. ففي حديث الهذلي، نقرأ : " وينصرف مولاي الشيخ وصاحبه عدي. فإذا هما برجل يحتلب ناقة في إناء من ذهب. فيقولان: مَنِ الرجل؟! فيقول: أبو ذؤيب الهذلي. فيقولان: "حييت وسعدت. أنحتلب مع أنها من لبن؟" فيقول: لا بأس، إنما خطر لي ذلك مثلما خطر لكما القنص، [...]. فقيض الله بقدرته لي هذه الناقة مطفلا، فقمت أحتلب على العادة وأريد أن أشوب ذلك بضرب نحل. فإذا امتلأ إناؤه من الرسل كوَّن البارئ — جلت عظمته — خلية من الجوهر رتع ثَوْلُها في الدهر. فاجتنى ذلك أبو ذؤيب ومزج حليبه. فيقول: ألا تشربان؟ فيجرعان من ذلك المحلب جرعًا لو فرقت على أهل سقر لفازوا بالخلد. فيقول عدي: "الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ((أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، سبق ذكره، صص. 199ــ200))في الآية 43 من سورة الأعراف، يتحدث القرآن عن الجنة جملة، إلا أنّ اِبن القارح أسهب في ذكر تفاصيل قد أملته عليه مخيلته. فنرى ناقة ومطفلا وأواني ملأى عسلا وأخرى لبنا وخلية من جوهر. لقد وصل ابن القارح الجنة، وما دام يظن أنه من ساكنيها فله الحرية في أن يتخيّل ما يريد ويتبع ذلك باستشهاد عام لا يصوّر حقيقة ذلك المكان. فالأسطورة إذن تختفي وراء التفاصيل لأنّ الدليل على صدق ما صُوّر منعدم أصلا.
جعل المعري من المكان المذكور في القرآن عتبة دخولٍ إلى عالم الأساطير. فالمكان الذي رسمه المعري على لسان بطله ابن القارح أو شخصيات أخرى هو واجهة السرد فحسب، لكن المغامرة حولته إلى مكان مضخم ينشأ من عالم الخيال الذي يبدع فيه كاتب القصة أو المسرحية أو الكوميديا. فلا يكتفي المعري بآية، بل يطلق العنان لخياله. فيقدم لوحات رائعة ما رأتها عين ولا خطر على قلب بشر. إن هذا الإبداع الأسطوري الذي تضخم عن الرحلة يكشف أولا عن نوعية التحولات التي يشهدها الواقع بالقياس لما كان عليه في ماض ليس ببعيد (زمن الرسول والخلفاء). وثانيا عن العلاقة بنوعية الصلة التي يعقدها المؤلف مع أشكال الرسالة الخيالية ومضامينها الواقعية. لقد عاد إلى المطابقة بين العالمين، عالم الجنة والنار وعالم الدنيا العاجلة مبرهنا على أنهما وجهان مختلفان لعملة واحدة حيث اللهو هو ديدن البشر.
إنّ المكان العجائبي في الرسالة جنة ونار علائيان أخذا طابعهما الديني من القرآن. كما أن الأحداث والشخصيات ذات مرجعية أدبية أو دينية. عمد المؤلف إلى تصوير الجنة والنار تصويرا على درجة كبيرة من التّناقض. فقد جعل في الجنة شعراء ما عاشوا الإسلام أو اعتنقوه لأنهم نظموا أبياتا "أخلاقية" في روح الدّين ومبادئه، وفي الوقت نفسه، يصورهم في جنة تحفها صنوف اللهو والتشدق. هكذا إذن تتحول الرحلة من خلال علاقاتها بالبعث إلى شكل من أشكال الواقع الاجتماعي للراوي لأننا نرى فيه من العجائب والغرائب ما لا يكاد يصدقه عقل عاقل((انظر عبد القادر زيدان، قضايا العصر في أدب أبي العلاء المعري، دار الوفاء للطباعة والنشر، الإسكندرية، ج2، ط1، 2007، ص. 12)).
وكما أن ظهور الأسطورة يعني غياب بعد عقلاني يعين القارئ على الفهم وينظم فكره في شبكة من العلاقات المنطقية المتماسكة، فإن أبا العلاء المعري عمد إلى إشباع قصته بشواهد قرآنية. فلم يعتمد على مثل هذا المعطى الأسطوري إلى تشويش فكر القارئ، بل كانت المغامرة صورة مصغرة للواقع، واقع عجّ بعباد يحكمون على غيرهم دون دراية وهذا ما جاء في قصة مشاجرة الجعدي والأعشى: "فيقول نابغة بن جَعدة: "أتكلمني بمثل هذا الكلام يا خليع بني ضبيعة، وقد متَّ كافرًا وأقررت على نفسك بالفاحشة، وأنا لقيت النبي [...]. أغرَّكَ أن عَدَّكَ بعض الجهال رابع الشعراء الأربعة، [...] فيغضب أبو بصير فيقول: "أتقول هذا وإن بيتًا مما بنيت لَيعدل بمئة من بنائك؟ [...] فيقول الجعدي: "اسكت يا ضُل بن ضُل، فأُقسم أن دخولك الجنة من المنكرات، ولكنَّ الأقضية جرتْ كما شاء الله، لَحَقُّك أن تكون في الدرك الأسفل من النار، ولقد صَلِي بها مَن هو خير منك، ولو جاز الغلط على رب العزة لقلتُ إنه غلط بك! [...] ويثبُ نابغةُ بني جعدة على أبي بصير فيضربه بكوز من ذهب. فيقول الشيخ — أصلح الله به: لا عربدة في الجنان، إنما يُعرف ذلك بين السفلة والهجاج، وإنك يا أبا ليلى لمتترع، ولولا أن في الكتاب الكريم: "لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ" لظنناك أصابك نزف في عقلك.
ويريد أن يُصلح بين الندماء فيقول: "يجب أن يُحذر من مَلَكٍ يعبر، فيرى هذا المجلس فيرفع حديثه إلى الجبار الأعظم، فلا يَجرُّ ذلك إلا إلى ما تكرهانِ، واستغنى ربنا أن تُرفع الأخبار إليه، ولكن جرى ذلك مجرى الحَفَظة في الدار العاجلة. أما علمتما أن آدم خرج من الجنة بذنب حقير! فغير آمن من ولد أن يقدر له مثل ذلك، فسألتك بالله يا أبا بصير: هل يهجس لك تمني المدام! " فيقول: "كلا والله، إنها عندي كمثل المقر لا يخطر ذكرها بالخلد، فالحمد لله الذي سقاني عنها السُّلوانة". فيقول: "يا أبا ليلى، إن الله — جلَّت قدرتُه — مَنَّ علينا بهؤلاء الحور العين اللواتي حولهن عن خلق الإوز، فاختر لنفسك واحدة منهن، فلتذهب معك إلى منزلك تلاحنك أرق اللحان وتُسمعك ضروب الألحان". فيقول لبيد بن ربيعة: "إن أخذ أبو ليلى قينة وأخذ غيره مثلها، أليس ينتشر خبرها في الجنة، فلا يؤمن أن يسمى فاعلو ذلك أزواج الإوز". فتضرب الجماعة عن اقتسام أولئك القيام. ويفترق أهل ذلك المجلس بعد أن أقاموا فيه كعمر الدنيا أضعافًا كثيرة(( أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، سبق ذكره، صص. 227ــ237)).
يبين هذا المشهد الطويل بوضوح النقد اللاذع الذي يوجهه المعري لمجتمع يعج بالتناقضات. فرسالة الغفران كما قال الذهبي: "رسالة في مجلد واحد احتوت على مزدكة واستخفاف وفيها أدب كثير((الذهبي، تاريخ الإسلام، انظر مصطفى السقا وآخرون، تعريف القدماء بأبي العلاء، بإشراف طه حسين، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، ط3، 1986، ص. 189)).. وإن لم يحدد الذهبي ما يعني بالمزدكة((نسبة إلى المَزْدَكيّة وهو دين ثَنَوي منبثق عن المانوية، مؤسسه الزعيم الديني الفارسي مَزْدَك المتوفى نحو 528م. وهي حركة مناهضة للزَّرادشتية السائدة في عهده، وراح يناقش قضية الظلمة والنور حيث يرى أن امتزاجهما هو الذي تمخض عنه نشأة الدنيا صدفة وأسّس دينه التي دعت إلى المشاركة في الأموال والنساء. اُنظر الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، صححه وعلق عليه أحمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، 2016، ط2، ص. 276 )) أو يشرح ما يقصد بالاستخفاف، فإنّه يتضح لنا من خلال المثال السابق نبرة المعري التهكمية: إنّه يُدخِل بطله الجنة، فضاء الراحة الأبدية والنعيم الخالد، حيث كلّ سكانها أخلاء قد نزعت عن قلوبهم كل ذرة حقد وشحناء، مستشهدا بالآية 47 من سورة الحجر: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدورِهِم مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين"، فتراه أمام مراء وهجاء وعراك وضرب بأواني الجنة وحكم على صاحب المكان بالغلط في الجزاء. إنّه مشهد مضحك، استخدم فيه المعري مسحة فُكاهية وكأن به يستخفّ بقدسية المكان. لقد اِستشهد بآيات القرآن في وصفه الجنة ونعيمها لكنه أضاف مشاهد قد جادت بها قريحته ليجعل من هذا الفضاء المقدس مكانا عاديا يشبه أي مكان في الدار العاجلة. لم يدخل أبو العلاء الجنة وما اِلتقى يوما بآدمي عاد منها، لكنه أديب وشاعر لا يستطيع أن يكبح جماح خيالاته. "أول ما ينبغي التذكير به أن المعري لم ينشئ كتابه من تلقاء نفسه، وإنما كرد على رسالة توصل بها من ابن القارح تتضمن، إلى جانب مواضيع مختلفة، حديثا عن عدد من الزنادقة والمبتدعين. وحسب عادة القدماء، فإن المعري افتتح رسالته بالإشادة بفضل ابن القارح [...]. بعد هذا التذكير، يتبين لنا أن استحضار الآخرة ووصفها عبارة عن استطراد، ولعله لم يكن في حساب المعري، فلم يأت على الأرجح نتيجة تخطيط مسبق. فكأن المعري أخذ على غرة وفوجئ بفيض الكلام، فانساق مع حركته بنشوة عارمة. بدأ بالحديث عن الشجرة الطيبة فنسي موضوعه، أي الرد على تساؤلات ابن القارح، وانخرط في عرض طويل لمشاهد من العالم الآخر. إن المقدمة التي كان من المنتظر أن تتركز في بضعة أسطر أو بضع صفحات قد تمددت وتضخمت وصارت في غاية الأهمية، بحيث إن القارئ يندهش ويحتار عندما يصل المؤلف إلى القسم الثاني، إلى الموضوع (الأساس!) للرسالة، ألا وهو الرد على ابن القارح. هكذا فإن مركز الرسالة، يعني القسم الثاني، صار بالنسبة لنا ثانويا وهامشيا، بينما القسم الأول، الذي هو مجرد استطراد، صار ذا أهمية بالغة((عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري أو متاهات القول، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،ط1، 2000، ص،ص،21)).
لقد فهم أبو العلاء واقعه، فاختار الأسطورة الأخروية لتصويره وضبطه من خلال مغامرة البعث التي لم تكن إلا تعبيرا عن إحساسه بواقعه وعدم استقراره فيه. فهو "يشعر بأن المنطق الذي يسوس مجتمعه غريب تتصارع في خضمه نزعات عقائدية ودينية، وتتضارب فيه المذاهب والفرق. وتتعايش في ظله الخرافات والبدع والأباطيل. مجتمع تائه غريب في الزمان والمكان فاقد لتوازنه قد خرج عن سبيل الحق إلى ظلمات الجهل. مجتمع قد أصبح في حركة متداخلة، قوامها الحكم على الغير بالزندقة أو الكفر أو الإلحاد. وقد وصف المعري صورة لهذه الأحكام في جنة الخلد((نفسه، ص.485)).
لقد توزع الفضاء من خلال رحلة أبي العلاء المعري إلى نوعين كبيرين: فضاء الجنة وفضاء النار، وهما غير منفصلين، انتقل بينهما ابن القارح دون عناء. لقد حاول أبو العلاء المعري عبر الأسطورة الأخروية أن يرصد التحولات التي وجدت في الجنة والنار. فصوّر لنا فضاء تعدى حدود الشاهد القرآني. فوصف الجنة مثلا فضاءً مليئا بالعربدة والتشدق واللهو والمجون والمحسوبية في الشفاعة. وكأنه يصف عالمه الذي اعتزله ليكتب رسالته بعد مضي قرابة ربع قرن من عزلته قد ذاع صيته وشاعت شهرته.
يعتبر أبو العلاء المعري أديبا حاذقا، اِستطاع بسعة فكره أن يوظّف الأسطورة في معالجة موضوع العالم الآخر الذي يعدّ لدى البعض من أسس الإيمان. حفظ المعري القرآن وتشبّع بآياته، لكنه أديب لا يرى الأمور كما يراها غيره، بل ينمقها ويزخرفها باسم الخيال. وما الأسطورة إلا من بنات الخيال. ولكن هل يحق للأديب شاعراً وكاتبا – أن يحرف التراث، بل ويناقضه لخدمة مآرب شخصية أو اجتماعية، وبخاصة إذا كان ذلك التحريف يصطدم بالمقدّس أو المحرم؟ "في القسم الأول نمرح مع ابن القارح في جنة النعيم، ونتسلى معه أيضا بإطلالة على أهل الجحيم؛ أما في القسم الثاني فنهيم في متاهة الاعتقادات التي دعا إليها عدد غفير ممن وسموا بالزندقة، فنشعر بشيء من خيبة الأمل، ونضبط أنفسنا أحيانامتلبسين بالسؤال التالي: لم تجشم المعري مشقة كتابة هذا القسم الذي يبدو مجدبا عقيما؟ لِمَ لَمْ يكتف بالقسم الأول المشوق والممتع؟ أبادر إلى القول إن هذا السؤال مجانب للصواب، إذ لولا القسم الثاني الذي يشكل الموضوع الرئيس للرسالة، لما عن للمعري أن يكتب القسم الأول... وإضافة إلى ذلك فإن هنالك، على عكس ما نعتقد إن تحليل أبي العلاء المعري للعالم الآخر لم يكن بريئا ولا موضوعيا، لأنه يحلله في شيء من التهكم المر الذي يصل درجة الثورة ضد عصره خاصة ما تعلّق بالحكم على الغير وتصنيف العباد تصنيفا تراتُبيًّا.لأول وهلة، علاقة وطيدة ومتينة بين القسمين"((عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري أو متاهات القول،سبق ذكره، ص. 22)).
ـ ملامح الأسطورة الأخروية في شخصيات رسالة الغفران
لقد تمخضت عن الرحلة شخصية طريفة عجيبة كان لها أبعد الأثر في تكييف زمن المغامرة وهي شخصية ابن القارح المبعوث فجأة قبل العالمين إلى الحياة بمحضر الراوي. ومن خلال الحوارات التي دارت بينه والشخوص الأخرى تبين أن ابن القارح من معاصري أبي العلاء وعاشق للشعر مثله. وقد وجدنا في الرسالة إشارات كثيرة تحيلنا إلى وقائع وأسماء وأحداث حقيقية كتلك التي عاشها بعض الشعراء والأدباء والنقاد.
وهكذا أصبح ابن القارح رمزا لفترة من فترات تاريخ الحضارة العربية وتحول بذلك إلى همزة وصل بين عالمين أحدهما واقعي يعيش فيه وثانيهما خيالي أسطوري لا وجود له خارج ذاكرة الشخصية الرئيسية وخارج قيمها ومفاهيمها وتصوراتها، بالإضافة إلى بعض الشخصيات الثانوية الأخرى التي كانت هي الأخرى قادرة على تمثله كالشعراء والنحويين لكن بدرجة أقل.
بدا الزّمن الثّاني موضوعيّا، إذْ أنّه يتحدّدُ بمعزل عن الشّخصيات. هذا الزمن هو زمن الأسطورة الأخروية، وقد ساهمت كل الشخصيات بتنوعها في إجلائه وتحديد معالمه ورصد تحولاته. ونلاحظ أن هناك فئتين من الشخصيات: أولا غير الآدميّة التي لم يحدث أن التقى بها إنسان كالملائكة، والجن، والعفاريت وإبليس، وهذه شخصيات أسطورية لا وجود لها عند الكثيرين. وثانيا الشخصيات الآدمية التي ذُكرت في كتب التاريخ والأدب. إن هذه الشخصيات حقيقيّة من حيث الوجود، غير أنّها أسطوريّةٌ من حيثُ الفعل. فالشعراء والأدباء والنقاد والنحويون وآخرون (الرسول، آدم، علي، حمزة، فاطمة) حقيقيون عاشوا في فترة زمنية محددة، والملائكة والشياطين والجن حقيقيون لمن يؤمن بذلك، لكن المواقف أسطورية، خلق حيثياتها السارد، وسنذكر بعضها.
فهذا الأعشى الشاعر الجاهلي صاحب المعلقة التي ينشد فيها روعة الحوانيت ونشوة الخمر يتحدّث مع علي ويلقى الشفاعة من الرسول: "فيهتف هاتف: "أتشعر أيها العبد المغفور له لمن هذا الشعر؟" فيقول الشيخ: "نعم، حدثنا أهل ثقتنا عن أهل ثقتهم، أن هذا الشعر لميمون بن قيس بن جندل." فيقول الهاتف: "أنا ذلك الرجل، مَنَّ الله علي بعد ما صرتُ من جهنم على شفير، ويئست من المغفرة." فيلتفت إليه الشيخ هشًّا بشًّا مرتاحًا، فإذا هو بشاب غُرانق وقد صار عشاه حورًا وانحناء ظهره قوامًا، فيقول: "سحبَتْني الزبانية إلى سقر، فرأيت رجلًا في عرصات القيامة يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، والناس يهتفون به من كل أوب: "يا محمد، يا محمد، الشفاعة! الشفاعة! نمت بكذا ونمت بكذا." فصرخت في أيدي الزبانية: "يا محمد أغثني، فإن لي بك حرمة." فقال: "يا عليُّ بادِرْه فانظر ما حُرْمَتُه." فجاء علي بن أبي طالب — صلوات الله عليه — وأنا أُعْتَل كي ألقى في الدرك الأسفل من النار، فزَجَرهم عني[...] وقد كنت أومن بالله وبالحساب، وأصدق بالبعث وأنا في الجاهلية الجهلاء." فذهب عليٌّ إلى النبي فقال: "يا رسول الله، هذا أعشى قيس، قد روى مدحه فيك، وشهد أنك نبي مرسل." فقال: هلا جاء في الدار السابقة؟ فقال علي: قد جاء، ولكن صَدَّتْه قريش وحُبُّه للخمر. فشفع لي فأُدخلت الجنة على ألا أشرب فيها خمرًا، فقرَّت عيناي بذلك، وإن لي منادح في العسل وماء الحيوان، وكذلك من لميتُب من الخمر في الدنيا لم يُسقها في الآخرة((أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، تحقيق عائشة عبد الرحمن، صص. 177ــ181)).
في هذا المثال، تظهر ثلاث إشكاليات، الأولى تتعلق بحكم الخمر والثانية بمنزلة علي والثالثة بمسألة الغفران. ظهرت هذه الإشكاليات في عصر المعري وكثر الجدال فيها. فقد اجتهد بعض الفقهاء في تحليل النبيذ كنبيذ العسل والبر والتين ((أحمد أمين، ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ج1، د. ت، ص 43.))..كما زخر هذا العصر بالمذاهب والفرق الكلامية وعلى رأسها الشيعة ((فوزي محمد أمين، رسالة الغفران بين التلميح والتصريح، دار المعرفة الجامعية، 1993، ص. 105)). فرسالة الغفران هي "رحلة تخيلها أبو العلاء في الجنة والنار ليحل في عالم خياله مسائل ومشكلات ضاق بها في عالم واقعه، من العقاب والثواب أو الغفران او عدم الغفران، يوردها مورد الساخر تارة والناقد المتبحر تارة أخرى ((محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار النهضة، مصر، 1997، ص. 496)).
إن الشخصيات الحاضرة في الرسالة صور حية لمن كان يعيش في واقع المعري. فهناك علاقة تطابق أو تماثل انتهت بالتلاشي عبر قناة الأسطورة. لقد تأقلم ابن القارح مع شخصيات العالم الآخر بكل ما تحمل من تناقضات في (ورع ومجون) كما تأقلم المعري مع شخوص مجتمعه. إن هذا المستوى في معالجة الظاهرة الأسطورية قد انبنى خاصة على تتبع مظاهر الثبات والتحول التي تنطوي عليها تحولات آنية للمجتمع العربي في تلك الحقبة، لذلك فقد ارتقى هذا البحث بسياق الرسالة من مجال الإصلاح الاجتماعي الظرفي إلى درجة البحث في الشعر المعمق الذي يتأمل الظواهر معتمدا على جواهرها دون أعراضها محاولا تخطي الخاص نحو العام فتحول ابن القارح من باحث عن الجنة إلى باحث عن حيثيات الشعر العربي٠
وهنا بالذات تنفصل كلمه شعر عن مدلولها القديم جدا لتصبح في ذهن ابن القارح مدلولا أخلاقيا إيمانيا. لم يكن بحث أبي العلاء المعري في الشعر مجرد دراسة شعرية للشاعر العربي، بل كان أكثر من ذلك. لقد بحث في الشعر من وجهة نظر أخلاقية عقائدية. وهنا بالذات تنفصل كلمه شعر عن مدلولها القديم لتصبح في ذهن أبي العلاء المعري المفكر والفيلسوف قرينة الأخلاق والإيمان الذين يعتبران أساس الدول والحضارات وتحولات المجتمع.
كانت رسالة الغفران رحلة إلى العالم الآخر وكتابا جمع فيه أبو المعري أفكاره النقدية في النحو والبلاغة والعروض والشعر. لا نعثر في الرسالة على مصطلحات الفحولة والذوق والطبقات واللفظ والمعنى، فلم يتوزّع الشعراء في مراتب على حسب جودة أشعارهم وأغراض قصائدهم، بل اختار المعري شعراء وجدهم ابن القارح في نعيم الفردوس وآخرين سيق بهم إلى جهنّم أفواجا على أساس بيت أو بيتين. لقد أنهى المعري فكرة أنّ دخول الجنة والنار مرهون بما يقوم به الإنسان من أعمال صالحة أو سيئة في دنياه، وخلق فكرة جديدة وهي الشعر الملتزم. إنّ في هذه الفكرة تناص اِئتلاف مع الآيات الأربع الأخيرة من سورة الشعراء "والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُون. أَلَم تَرَ أَنَّهُم فِي كُلِّ وَاد يَهِيمُون. وَأَنَّهُم يَقُولُونَ مَا لا يَفعلُون. إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرا وَانتَصَرُوا مِن بَعد مَا ظُلِمُوا وَسَيَعلمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُون". من خلال الآيات، يظهر الشعراء عبادا في كلّ نادٍ بغير حقيقة، يتبعون خيالاتهم وما جادت به قريحتهم. ويُستثنى منفي اختيار شعراء الجنة وشعراء النار، وذاك هو روح الأسطورة المتجلية في شخصيات رسالة الغفران.
ذكر المعري أمثلة كثيرة عن شعراء دخلوا الجنة ببيت شعر وآخرون زجّ بهم في السعير بسبب بيت شعر. سنكتفي بذكر مثالين، الأول لزهير، شاعر جاهلي وجده ابن القارح في الجنة، والثاني بشار، شاعر عباسي أدرك الإسلام ودخل النار.
فهذه قصة زهير: "وينظر الشيخ في رياض الجنة، فيرى قصرينِ مُنيفَين، فيقول في نفسه: لأبْلُغنَّ هذين القصرين. فأسأل لمَنْ هما. فإذا قرب منهما رأى على أحدهما مكتوبًا: (هذا القصر لزهير بن أبي سُلمى المزني)، وعلى الآخر: (هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسدي). فيعجب من ذلك. ويقول: "هذان ماتا في الجاهلية، ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء، وسوف ألتمس لقاء هذين الرجلين. فأسألهما بم غُفر لهما؟" فيبتدئ بزهير فيجده شابًّا كالزهرة الجَنِيَّة. كأنه ما لبس جلباب هِرَم، ولا تأفف من البرم. وكأنه لم يقل في الميمية
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش *** ثمانين حولا — لا أبا لك — يسأم
ولم يقل في الأخرى:
ألم ترني عمرت تسعين حجة *** وعشرًا تباعًا عشتُها وثمانيا
فيقول: جير جير، أنت أبو كعب وبجير! فيقول: نعم. فيقول: بم غفر لك وقد كنت في زمان الفترة والناس هملٌ لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفورًا. فصادقت ملكًا غفورًا، وكنت مؤمنًا بالله العظيم. ورأيت فيما يرى النائم حبلا نزل من السماء. فمَنْ تعلَّق به من سكان الأرض سَلِم. فعلمتُ أنه أمرٌ من أمر الله. فأوصيت بنيَّ وقلت لهم عند الموت: إنْ قام قائم يدعوكم إلى عبادة الله فأطيعوه. ولو أدركتُ محمدًا لكنت أول المؤمنين. وقلت في الميمية والسفه ضارب بالجران
فلا تكتمن الله في نفوسكم *** ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدَّخر *** ليوم حساب أو يقدم فينقَم(( نفسه، صص. 181ـ183))
أتْبع أبو العلاء الجزاء بفكرة الالتزام الشعري. اِشتهر زهير بالحوليات وبصدق قصائده. إنه شاعر الحكمة والداعي إلى السلم. ذكر زهير في معلقته أبياتا عدّها النقاد إيمانية لأنها تدعو إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فكان بذلك من أهل الجنة. لا يستطيع أيّ مخلوق أن يجزم صدق ذلك أو كذبه، لهذا لم يجد المعري عليه سبب دخوله الفردوس. وفي إجابة زهير الجادة بعض ملامح سخرية أبي العلاء بفكرة الغفران: إنه يجعل فكرة الرب الغفور لا حدود لها. لقد أحاطت الأساطير بصورة الرب، فأعطاه البعض أسماء وجعل له آخرون صفات ونعوتا. فصورة الرب بأسمائه وصفاته من المواضيع الهامة في الدين الذي هو وعاء الأساطير.
وهذه قصة بشار: "فلا يسكت من كلامه، إلا ورجل في أصناف العذاب، يغمض عينيه حتى لا ينظر إلى ما نزل به من النقم، فيفتحهما الزبانية بكلاليب من نار، وإذا هو ببشار بن برد، قد أعطي عينين بعد الكلمة، لينظر إلى ما نزل به من النكال. فيقول له: "يا أبا معاذ لقد أحسنت في مقالك. وأسأت في معتقدك. ولقد كنت في الدار العاجلة أذكر بعض قولك. فأترحم عليك، ظنًّا أن التوبة ستلحقك، مثل قولك
ارجع إلى سكن تعيش به *** ذهب الزمان وأنت منفرد
ترجو غدًا، وغدًا كحاملة *** في الحي، لا يدرون ما تلد
وقولك
الحر يلحى والعصا للعبد *** وليس للملحف مثل الرد
فيقول بشار: "يا هذا! دعني من أباطيلك، فإني لمشغول عنك"((نفسه، صص. 310ــ311))
غمر تناص الاِختلاف مع القرآن الكريم نص الرسالة، ويظهر جليا في كثرة الحوارات التي أجراها ابن القارح مع شخوص الرسالة وخاصة الشعراء منهم. نادرا ما نجد في القرآن حوارات بين أهل الجنة والنار، إلا أن المعري قد جعل من بطله اِبن القارح شاهد عيان ومبعوثا خاصا إلى أصحاب الجنة والنار يحاورهم في سبب وجودهم في هذا المكان وفي بعض المسائل الأدبية. إن هذا "السيناريو" يشبه ما جاء في رحلة الإسراء والمعراج وزيارة محمد للجنة والنار وسؤاله ربه عن أهلها وأسباب الثواب والعقاب. تختلف رسالة الغفران مع قصة الإسراء والمعراج، التي يعتبرها البعض أسطورة، في اِستعمال الحوار. فابن القارح يسأل عن سبب الغفران والعذاب، ثمّ يقصر المقام مع شاعر أو يطيله حسب ثراء المسائل الأدبية أو فقرها. فلما أنهى ابن القارح حديثه مع بشار عن سبب دخوله النار بدأ يجادله في شعره فكان جواب بشار: يا هذا! دعني من أباطيلك، فإني لمشغول عنك". ويمكن تفسير الأباطيل بمعنيين، فمن جهة كل المسائل الشعرية التي يسهِب فيها النقاد، ومن جهة الأخرى فهي الأساطير > التي أحاطت بالفكرة الرئيسية للرسالة وهي الرحلة للعالم الآخر.
نعتقد أن هذا التصور الجدلي لمفهوم الشعر هو الذي أكسب الشعر طابع التميز والتفرد. فانفصل عن مفهومه عند القدامى ابتداء من تلك النقطة التي التقى فيها ابن القارح مع مجموعة من الشعراء سيق بهم إلى الجنة أو النار بأبيات. وهكذا أصبحت الصّلة بين المفهوم الأخلاقي والمفهوم الشعري امتدادية متحولة تأخذ بأبي العلاء إلى تقديم أحكامه حول الشعراء باختلاف عصورهم ومشاربهم. إن الجنة إذن ليست حكرا على المسلمين فقط دون غيرهم وكما أن النار ليست جزاء نهائيا للكفار ولا قدرا أبديا لهم. وفي ظل هذه الحركة الزمنية تصبح الفواصل الحضارية بين الشعراء مؤقتة لأن الجنة والنار ليستا ملكا لأحد.
تتعدّد الشّخصيات في رسالة الغفران تعدّدا نوعيّا بتعدّد الأشعار وتنوّعها، لا من حيث سموّ البعد الأخلاقيّ فيها فحسب، بل من حيثُ حِقبها الزّمنيّة أيضًا. وفضلا عن الأشعار والشعراء هناك شخصيات أخرى تمثل مرحلة الانطلاق وتحول المجتمع العربي إلى مجتمع يتخطى أسوار التفكير المجرد. وطبقا لهذه المعطيات فقد أدخل أبو العلاء المعري شخصيات دينية ظهرت في فترة من الزمن منها حمزة وعلي وفاطمة وأضفى عليها مسحة أسطورية، شخصيات تجسم مسؤولياتها الاجتماعية والدينية والثقافية. وبذلك يريد أبو المعري أن يساهم في بناء المجتمع مساهمة تقدمية، مساهمة الأديب الذي يتأثر ويؤثر في بناء حركة التاريخ وتجاوز سلبيات الواقع وكلّ الأفكار الجاهزة والأحكام المسبقة. إن الشخصيات الآدمية المذكورة في الرسالة حقيقية، لكنّ المعري أعطاها مسحة أسطورية، وهذا ما نراه اليوم في مجتمعاتنا في رؤيتها لبعض الشخصيات، فظهرت بذلك السِير والملاحم التي رفعت الأشخاص إلى مرتبة الرجال الخارقين، مثل سيرة عنترة وأبي زيد الهلالي.
الخاتمة
تعدّ رسالة الغفران أثرا في جوهره سيرورة تاريخية ديناميكية لأن قوامها التحول المستمر الذي ينبني على صراع المتناقضات وهو عموما بحث عن التوازن المفقود لإثبات الهوية العقائدية وبناء الذات الدينية في وجه التحديات الحضارية، لذلك كانت الرسالة تعبيرا عن طموحات أبي العلاء المعري في ترسيخ كيانه وحكمته وعنوانا لانتمائه العقائدي ورغبته في توجيه الواقع لصالحه ولسعادته.
إن رسالة الغفران هي تعبير عن الفعل الإيجابي الذي يشعر الإنسان بتفوقه بقدراته على إثبات ذاته وتكييف التاريخ. يعبر هذا الأثر عن بناء المجتمع. فالحضارة التي يشعر في ظلها أي إنسان بأنه ينتمي إلى مجموعة بشرية يكون قادرا على المساهمة في إدراك هياكلها وتحريك دواليبها ودفعها قدما إلى الأمام عن طريق النقد الاجتماعي ولو عن طريق الأسطورة التي اتخذها المعري وسيلة لإيصال أفكاره وكشف نفاق مجتمعه.
إن إدخال الأسطورة في رسالة الغفران كان رمزا لمجموعة تناقضات ثقافية ودينية واجتماعية عاشها المجتمع العربي في نهاية القرن الرابع الهجري، وكان علامة على التحول العميق الذي عاشته شرائح المجتمع بتلك الفترة. اتخذ أبو العلاء المعري من الأسطورة مطية لمغامرة مجهولة العواقب أصبحت في ظلها علاقته بغيره علاقة غامضة متوترة على سبيل التهكم بعقائدها، فتعمّد إدخال الأسطورة في كتابه على لسان ابن القارح لكي يساهم في وضعها فكريا وعمليا.
في ختام هذا البحث، انتهينا إلى مجموعة من النتائج العامة المتمثّلة فيما يلي: أولا إنّ في الأسطورة الأخروية قوة مجردة يمكن تفسيرها ويسهل تقصّي آثارها العميقة التي تتركها في القارئ. ثانيا إنّ الأسطورة تجلّت في ظاهرة التناص مع القرآن الكريم، فكان تناص الخصب جنّة ونارا، فأدخل من شاء الفردوس وزجّ بمن شاء في النار متخذا الشعر حكما. ثالثا إنّ قوة الأسطورة قديمة قدم الإنسان والكون، تجمعت كل إجاباتها في لفظة العالم الآخر التي تحولت عبر الأدب العربي إلى كلمة مشحونة تنطوي على طاقات المرحلة التاريخية التي مرّ بها المجتمع العربي آنذاك. لذلك نعتقد أنه من الوهم أن نتحدث في الأدب العربي برمته عن مفهوم واحد وموحد للأسطورة الأخروية. إيحائية هائلة تتشكل رموزها في كل عصر. تتعلّق الأسطورة في رسالة الغفران إلى حد كبيربخصوصيات اِئتلاف مع مشاهد الجنة والنار في الآيات وتناص اِختلاف في معظمه، حيث خلق المعري بخياله
رابط الجزء الاول https://cle.ens-lyon.fr/arabe/litterature/classique-et-nahda/al-ustura-al-ukhrawiyya-fi-risalat-al-ghufran-1
المصادر
القرآن الكريم
أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، تحقيق عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، مصر، ط5، 1969
المراجع
الكتب
ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين لسان العرب، دار صادر، بيروت، مجلد 4، د.ت
أحمد أمين، ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ج1، د. ت
أحمد أمين، ظهر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ج1، 2008
مرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد الخياط، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 1991
صالح بن رمضان، المعري ورسالة الغفران، محاورة الحدود وحدود المحاورة، دار اليمامة للنشر والتوزيع، تونس، ط2، 1993
بوجمعة بوبعيو، حضور الرؤيا واختفاء المتن، دارسة في علاقة الأسطورة بالشعر العربي المعاصر، مطبعة المعارف، عنابة، ط1، 2006
محمد التونجي، الآداب المقارنة، دار الجيل، بيروت، ط1، 1995
الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات مشاهير الأعلام، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ج 30 ط1، 1992
طه حسين، تجديد ذكرى أبي العلاء، دار المعارف، القاهرة، ط6، 1963
عبد القادر زيدان، قضايا العصر في أدب أبي العلاء المعري، دار الوفاء للطباعة والنشر، الإسكندرية، ج2، ط1، 2007
سلام سعيد، التناص التراثي، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 2010
مصطفى السقا وآخرون، تعريف القدماء بأبي العلاء، إشراف طه حسين، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، ط4، 1986
فراس السواح، الأسطورة والمعنى، دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، منشورات دار علاء الدين، دمشق، ط2، 2001
أبو الفتح محمد بن عبد الكريم، الشهرستاني، الملل والنحل، صححه وعلق عليه أحمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، 2016، ط2
شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي الحديث، دار المعارف، القاهرة، ط10
منى طلبة، أبو العلاء وبراندان، دراسة مقارنة لأدب الرحلة إلى العالم الآخر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1997
محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار النهضة، مصر، 1997
عبد المالك فجور، القصة ودلالتها في رسالة الغفران وحي بن يقظان، ط1، 2009
أحمد كمال زكي، الأساطير، دار العودة، بيروت، ط2، 1975
عبد الفتاح كيليطو، أبو العلاء المعري أو متاهات القول، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2000
كامل الكيلاني، رسالة الغفران، المكتبة التجارية، القاهرة، 1923
سليمان مظهر، أساطير من الغرب، مطابع الشعب، القاهرة، 1959
فوزي محمد أمين، رسالة الغفران بين التلميح والتصريح، دار المعرفة الجامعية، 1993
حسين نجيب المصري، الأسطورة بين العرب والفرس والترك، دراسة مقارنة، الدار الثقافية للنشر، القاهرة، ط1، 2000
الدوريات
مجلة التواصل الأدبي، ع1، جوان 2007، جامعة سيدي عمّار، عنابة، الجزائر
Pour citer cette ressource :
Salim Gasti, "الأسطورة الأخروية في رسالة الغفران - الجزء الثاني", La Clé des Langues [en ligne], Lyon, ENS de LYON/DGESCO (ISSN 2107-7029), octobre 2023. Consulté le 07/11/2024. URL: https://cle.ens-lyon.fr/arabe/litterature/classique-et-nahda/al-ustura-al-ukhrawiyya-fi-risalat-al-ghufran-2