Vous êtes ici : Accueil / Littérature / Classique et Nahda / الأسطورة الأخروية في رسالة الغفران - الجزء الأول

الأسطورة الأخروية في رسالة الغفران - الجزء الأول

Par Salim Gasti : Docteur en littérature et civilisation arabes classiques, professeur agrégé - Chercheur associé au GEO Université de Strasbourg
Publié par Fatiha Jelloul le 24/10/2023

Activer le mode zen PDF

أبو العلاء المعري شاعر وناثر عالجت نصوصه فلسفة الحياة. ومن المواضيع التي عالجها فكرة الموت وما بعده من خلال كتابه الموسوم "رسالة الغفران". هي رحلة إلى عالم الآخرة حيث الجنة والنار، والحور والزبانية والنعيم والعذاب. عالم وصفه المعري مستعينا بما جاء في القرآن. لكنه أضاف ما أملت عليه مخيلته الخصبة، فجاءت الرسالة مزيجا بين الواقع والخيال، والحقيقة والأسطورة. هذا النوع من الأساطير مُصنّفٌ ضمن الأساطير الأخروية. في هذا المقال، سنعالج إشكالية الأسطورة الأخروية في رسالة الغفران عبر مجموعة من التساؤلات منها: ما هو نصيب الأسطورة في رسالة الغفران؟ ما هي صورة الجنة والنار في الرسالة؟ ما علاقة الشعر بالأسطورة في الرسالة؟ إلى أي مدى تتزاوج الحقيقة بالأسطورة في الرسالة؟ للإجابة عن كل هذه الأسئلة سنتبع المنهج الوصفي والمنهج التحليلي. الكلمات المفاتيح: الأسطورة، الآخرة، رسالة الغفران، أبو العلاء المعري، البعث، الزمان، المكان، الشخصيات

مقدمة

لقد اخترنا في هذا البحث أثرا أدبيا يعتبر باكورة الإنتاج النثري في الأدب العربي في العصر العباسي (أواخر القرن الرابع هجري وبداية الخامس هجري. فترة شهدت فيها الحضارة العربية وعيا كاملا بالإضافة إلى كثير من التساؤلات متنوعة المشارب. ولكنها تصبّ في استفهام أساسيّ واحد وهو قضية الاعتقاد. الأثر لأبي العلاء المعري. ويحمل عنوان "رسالة الغفران". إن موضوع بحثنا هو "الأسطورة الأخروية في رسالة الغفران". ولعلّ وجه الطرافة في استنطاق الظاهرة الأسطورية كما تمثلها أبو العلاء المعري يكمُنُ في أمرين: أوّلهما الكشفُ عن خصوصياتها النوعية في حقبة تاريخية تعد من أخطر حقب تاريخ الحضارة العربيّة وأثراها لأنها تمثّل منعرجا حاسما في الجدالات المتعلقة بالعقيدة. ثانيهما مُساعدتنا على تبيّن أوجه الثّبات والتّحوّل في معالجة الظّاهرة الأسطوريّة كي تدخل الأسطورة في حوار جذري مع الواقع والتّاريخ وتصبح تعبيرا حضاريا نسبيّا متجدّدا.

لقد صنّف النقّاد رسالة الغفران ضمن جنس الخيال الأدبيّ النّثريّ. فاعتبرها الكيلاني "كوميديا إلهيّة مسرحها الجنّة والنّار(( كامل الكيلاني، رسالة الغفران، المكتبة التجارية، القاهرة، 1923)) وعدّها طه حسين أوّل قصّة خياليّة في الأدب العربيّ ((طه حسين، تجديد ذكرى أبي العلاء، دار المعارف، القاهرة، ط6، 1963، ص. 295)) ووضعتها عائشة عبد الرّحمن في "فنّ المسرحيّة ((أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، تحقيق عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، مصر، ط5، 1969، ص.14 )) ومن خلال هذا التأطير، فإن الإشكالية التي يمكن طرحها في بحثنا تعتمد على هذا الفن النثري الخيالي وعلاقته بالأسطورة، فنتساءل: كيف تجلت الأسطورة الأخروية في رسالة الغفران؟ وما هي ملامحها وغاياتها؟ للإجابة عن هذه الإشكالية، سنقسم بحثنا إلى جزئين. سنبحث في القسم الأوّل في ماهية الأسطورة عامة والأسطورة الأخروية خاصة ثم نعرّج على معتقد أبي العلاء المعرّي. أمّا في القسم الثّاني، فسنبحث في تجلّيات الأسطورة الأخرويّة في المثلّث الأدبيّ للرّسالة، نقصد الزّمان والمكان والشّخصيات. سنعتمد المنهج الوصفيّ في الجزء الأوّل والمنهج التّحليليّ في الجزء الثّاني آخذين أمثلة من الرّسالة التي حقّقتها بنت الشّاطئ.

أوّلا: الأسطورة، الأدب والدين

إنّ فهم معنى الأسطورة عامة والأسطورة الأخروية خاصة يساعدنا على الكشف عن درجة وعي الإنسان واِستفهاماته عن وجوده والمحيط الذي يعيش فيه والعوالم التي يجهلها ويتوق إلى كشف خباياها. تمثّل الأسطورة إذن الحضور الفاعل والمبدع للإنسان. ذاك الذي استطاع التّعبير عمّا يختلج في صدره ويدور في فكره. فيجتاز بذلك كلّ الحدود عن طريق المجاز، والرّمز، والأدب، والشعر. فقد تكون الأسطورة نتاجا شعبيا أو شطحات فكر أديب أو شاعر أرّقته التّساؤلات فامتطاها تاركا العنان لمشاعره، كما فعل أبو العلاء المعري كي ينهي حربه الضروس مع الشكّ.

1ــ الأسطورة والأسطورة الأخروية

تتفق غالبية المعاجم العربية على ماهية الأسطورة. ورد في لسان العرب، أن الأسطورة "من مادة "سطر" يسطر سطرا. والسّطر الصفّ من الشّيء كالكتاب، والشّجر، والنّخل، وغيره. [...] والأصل في السّطر الخطّ والكتابة [...]. والأساطير الأباطيل والأكاذيب، بمعنى أحاديث لا نظام لها [...] وسطّر تسطيرا ألّف [...] يُقال سطر فلان علينا يسطر إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل. يقال هو يسطر ما لا أصل له أي يؤلّف [...] ويقال سطر فلان على فلان إذا زخرف له الأقاويل ونمّقها وتلك الأقاويل هي الأساطير والسّطر(( محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، مجلد 4، د.ت، ص. 363)) وعرّفها الزجّاج بقوله: الأساطير الأباطيل والأساطير أحاديث لا نظام لها واحدتها إسطار وإسطارة. وسطّر: ألّف، وسطر علينا: أتانا بالأساطير". وقال الجوهري "الأساطير: الأباطيل والترّهات ((انظر محمد التونجي، الآداب المقارنة، دار الجيل، بيروت، ط1، 1995، ص. 37)). والأساطير الأباطيل والأكاذيب بمعنى أحاديث لا نظام لها [...]. يقال هو يسطر ما لا أصل له أي يؤلف [...] ويقال سطر فلان على فلان إذا زخرف له الأقاويل ونمّقها وتلك الأقاويل هي الأساطير والسطر(( انظر حسين نجيب المصري، الأسطورة بين العرب والفرس والترك، دراسة مقارنة، الدار الثقافية للنشر، القاهرة، ط1، 2000، ص. 60)) تتفق هذه التعاريف في أمرين: أولهما حضور الكذب في كلّ أسطورة، ويظهر ذلك في مفردات: الباطل، الترهات، زخرف، نمّق. وثانيهما وجود الكتابة التي تعطي لهذه الأساطير نوعا من المصداقية. وتقترب ماهية الأساطير هنا بما جاء في القرآن على لسان من شكّوا بما جاء به محمّد ونعتوه بأساطِير الأوّلين ((اُنظر عبارة "أساطير الأولين" في هذه الآيات ـ "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ" سورة الأنعام، ـ "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ". سورة الأنْفال، 31 ـ "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ" سورة النحل، 24 ـ "بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ، قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ". سورة المؤمنون، 81 ،82، 83.  ـ "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا". سورة الفرقان، الآيات 4، 5، 6  ـ "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ". سورة النمل، 67، 68 ـ "وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِي". سورة الأحقاف، الآية 17 ـ "أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ". سورة القلم، 14، 15 ـ "وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ". سورة المطففين، الآيات من 10 إلى 13)).

أمّا اِصطلاحا، فالأسطورة حكاية شعبية أو خرافية أنتجها الإنسان وتداولها قصد وضع إجابات لما يعانيه من تساؤلات مُمِضَّة واستفهامات مُتراكمة، "ناهيكَ عن صراعه الدّائم مع الظّواهر الكونيّة والطّبيعيّة الحافّة به. كما تعالج مجمل الأساطير موضوعا من الموضوعات مثل أساطير ااُنظر نظيرة الكنز، في الأسطورة والأسطورة الأنثوية للموت والبعث (( اُنظر نظيرة الكنز، في الأسطورة والأسطورة الأنثوية، مقاربة نظرية في الماهية والحدود، مجلة التواصل الأدبي، ع1، جوان 2007، جامعة سيدي عمّار، عنابة، الجزائر، ص. 28)). فالأسطورة من خلق الإنسان، اِتخذها إجابات عن كل ما يؤرقه ويجهل كنهه. وتتوارث الأجيال الأساطير وتجعلها حكايات تردّدها في مجالسها. فالأساطير نتاج الأسلاف الأولين الذين كلما اِستعصت عليهم الإجابة عما يحيط بهم نسجوا حولها الترهات والأساطير. وتتّصل الأسطورة بمفهوم القداسة: "فهي تروي تاريخا مقدّسا. تروي حدثا جرى في الزّمن البدائيّ. الزّمن الخياليّ هو زمن البدايات، بعبارة أخرى، تحكي الأسطورة كيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود، بفضل مآثر اجترحتها الكائنات العليا. لا فرق بين أن تكون هذه الحقيقة كلية كالكون مثلا، أو جزئية كأن تكون جزيرة، أو نوعا من نبات، أو مسلكا يسلكه الإنسان أو مؤسسة. إذن هي دائما سرد لحكاية خلق (( مرسيا إلياد، مظاهر الأسطورة، ترجمة نهاد الخياط، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 1991، ص. 10)).

ويقربنا هذا التعريف من نوع من الأساطير ألا وهو الأسطورة الأخروية، التي تُعدّ محاولة لتفسير الطبيعة والمحيط الذي يعيش فيه الإنسان، خاصة أنّه يقف عاجزا لجهله وعدم وعيه بحقيقة الظاهرة الطبيعية، والقوى الغيبية أو كل ما يتعلق بالآلهة وأنصاف الآلهة، والشخصيات البطولية ذات الصفات الخارقة للعادة. ويبدأ الإنسان في حكي الأساطير وكأنّه يريد أن يترك أثرا عن تساؤلاته الغيبية. ولكي ينجح في ذلك، كان لا بدّ أن يتبع طريقة السرد القصصي ما دامت الأسطورة وليدة شطحاته الذهنية. "فالأسطورة قصة تحكمها مبادئ السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات، محافظة على ثباتها مند فترة طويلة تتناقلها الأجيال زيادة على الطابع الجماعي الذي تتمتع به أو ما يعرف بالخيال المشترك للجماعة، كما تلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية فيها بحيث تجري أحداثها في زمن مقدس غير الزمن الحالي، تتمتع فيه بسلطة عظيمة وقدسية على عقول الناس ونفوسهم، وهذا ما جعل بعض الباحثين يعرفونها بأنّها قصة الأعمال الّتي يقوم بها أحد الآلهة في العقائد القديمة أو إحدى الخوارق الطبيعية (( سليمان مظهر، أساطير من الغرب، مطابع الشعب، القاهرة، 1959، ص. 3)).

ترتبط الأسطورة بفكر الإنسان ورؤاه في كل ما يحيط به ويعجز عن تفسيره، فهي أوّل وسيلة يستعملها لمحاولة فهم الظواهر الميتافيزيقية. فالأسطورة إذن "علم قديم بل إنّه أقدم مصدر لجميع المعارف الإنسانية، ومن هنا ترتبط كلمة الأسطورة دائما ببدائية الناس، وبداية البشر قبل أن يمارسوا السحر كضرب من ضروب العلم أو المعرفة ((أحمد كمال زكي، الأساطير، دار العودة، بيروت، ط2، 1975، ص . 44)) إنّ الأسطورة من هذا المنطلق الإنسانيّ تفسّر أصول الظّواهر الإنسانيّة والطّبيعيّة، وتقنّن من خلالها ثقافة معيّنة أعرافها الاجتماعيّة، بمعنى آخر إنّها تبحث عن حقيقة الوجود الإنسانيّ في العالمين الماديّ الفعليّ من ناحية والغيبيّ الماورائيّ من ناحية أخرى. فهي "حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يُستقى من معان ذات صلة بالكون والوجود والحياة وحياة الإنسان (( فراس السواح، الأسطورة والمعنى، دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، منشورات دار علاء الدين، دمشق، ط2، 2001، ص. 14)).

وقد قامت الأسطورة بدور المنبع والأنموذج المؤثّر في الأدب. فهي الحامل للمعرفة من جهة، والداعم لليقين الروحي الاجتماعي من جهة ثانية. "ولابدّ من الإشارة منذ البدء إلى أنّ الأسطورة ربّما هي جزء من الشعر ذاته لاسيما إذا ما رجّحنا المقولة القديمة الّتي تذهب إلى أنّ الإنسان ما نطق إلاّ شعرا في طفولته الأولى. ذلك أنّ الإنسان الشاعر كان بعيدا عن الواقع من خلال شعره، بيد أنّه كان ـ في الوقت نفسه ـ يتوسّل بالشعر لمقاربة هذا الواقع رغم طغيان الجانب الخيالي والمثالي في تلك المقاربة (( عبد الحليم منصوري، من عولمة الأسطورة إلى أسطورة العولمة، مجلة التواصل الأدبي، ع1، جوان 2007، عنابة، ص. 13)).

ترتكز الأسطورة الأخروية على الخيال والتّخيّل وهو قدرة الفكر على استحضار الصور بعد غياب الأشياء التي أحدثتها، أو تركيب الصّور تركيبا حرا. وهو في الواقع، التّخيّل المبدع الذي ينشئ تركيبات جديدة مهما كان اعتمادها على الصّور الحسيّة الواقعيّة كبيرا. وهو الذي يضفي عليها صفة الإبداع التي تميّز الشعر أيضا. "وعلى أية حال فنحن الآن أمام إبداعان ونتاجان أفرزتهما قريحة البشريّة. وهما الشّعر والأسطورة. ويبدو أنّ مسألة علاقة الأسطورة بالشعر علاقة ترابطيّة تكاد لا تنفصم أواصرها، لسبب بسيط يكمن في أنّ الشّعر يمثل نقل التّجربة الإنسانية إلى الواقع. والأسطورة هي التّجربة في حدّ ذاتها ـ منذ أن أصبح هذا الإنسان يعي الأشياء من حوله، ويعبّر عن مكنوناتها في ضوء ما ألهمه اللّه من فطرة ونباهة وفكر، وبذلك وجد الشّعر ضالته في الأسطورة، كما وجدت ــ في الوقت نفسه ــ الأسطورة ضالتها في الشعر فكلاهما خدم الآخر بطريقة عفويّة(( بوجمعة بوبعيو، حضور الرؤيا واختفاء المتن، دارسة في علاقة الأسطورة بالشعر العربي المعاصر، مطبعة المعارف، عنابة، ط1، 2006، ص. 34)).

من خلال هذه التعاريف، نرى أنّ الأسطورة الأخروية ترتبط ارتباطا وثيقا من جهة بالمعتقدات ونخص بذلك الدين وكلّ ما جاء به من أفكار عن الآلهة والموت والبعث، ومن جهة أخرى بالأدب لأنه الفن الذي رسّخ الأساطير في مخيلة الأجيال. ولكي نفهم أدب المعري "الأسطوري"، كان لا بدّ من معرفة علاقة الكاتب بالدين.

2ــ أبو العلاء المعري ومعتقده

أبو العلاء المعري هو أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري وكنيته أبو العلاء. ولد في معرة النعمان شمال سوريا سنة 363 هـ (970 م). وفي سن الرابعة، أصيب بالجدري الذي ذهب بعينيه. توفّي سنة 449 هـ عن عمر يناهز الثمانين عاما. مؤلفاته كثيرة ذكر كامل الكيلاني أكثر من مئة، فُقِد معظمها وبقي منها: ديوان "سقط الزند" ويضمّ أشعاره في عهد الشباب، ديوان "اللزوميات" وهو أنفس دواوينه ويتضمن فلسفته في الحياة". رسالة الغفران" ورحلته إلى العالم الآخر و"رسالة الملائكة((كامل الكيلاني، رسالة الغفران، المكتبة التجارية، القاهرة، 1923، ص26 . 26 6)).

بالنظر إلى تصوّر المعري للدين ولمسألة الاعتقاد، "فقد رآه البعض مفكرا وأديبا متفردا في زمانه، وكل الأزمنة، وفتن بإبداعه كثيرون في عصره وعصرنا، فرأوا فيه أعظم شاعر في تاريخ الثقافة العربية قديما وحديثا، وواحدا من عبقريات الثقافة العالمية، وبالطبع فقد نزل به آخرون إلى الحضيض. ورآه البعض الآخر دَعِيًّا. "لا عقل له ولا دين، وهو متحذلق دعي، متظاهر بالحكمة

كلب عوى بمعرة النعمان *** لما خلا عن ربقة الإيمان

أمعرة النعمان ما أنجبت إذ *** أخرجت منك معرة العميان

لقد اعتمد المعري فكرة الشك في كل شيء، "ورأى أن العقل هو سبيل الاعتقاد القويم الصادق فيقول

رددت الى مليك الخلق أمري *** فلم أسأل متى يقع الكسوف

وكم سلم الجهول من المنايا *** وعوجل بالحمام الفيلسوف ((اُنظر منى طلبة، أبو العلاء وبراندان، دراسة مقارنة لأدب الرحلة إلى العالم الآخر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1997، صص. 88ـ94))

وقد نشأ هذا الشك العلائي في مجتمع منافق صوره المعري فأحسن. فقال

تغيبت في منزلي برهة *** ستير العيوب فقيد الحسد

فلما مضى من العمر إلا الأقل*** وحم لروحي فراق الجسد

فلا يعجبني هذا النفاق *** فكم نفقت محنة ما كسد (( أحمد أمين، ظهر الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، ج1، 2008، ص. 65))

ويبني النقاد آراءهم حول معتقد أبي العلاء المعري من خلال تصورهم للنص القرآني. "لقد أخطأ القدماء، في تصور "النص العلائي"، حيث وقعوا تحت سلطان ما ألفوه، والنص المألوف عندهم هو ما جرى مجرى العرب الاوائل: أما النص الخارق والمتجاوز، فهو إما يجري مجرى القرآن أو يعارضه. ولما كان نص أبي العلاء غير مألوف، فقد تيسر الربط بينه وبين النص القرآني، تارة كنص معارض وتارة كنص مواز [...]. لقد كان الحكم على عقيدة أبي العلاء محور اهتمام المؤرخين له والبلاغيين القارئين لنصه من القدماء، في مرحلة كانت غاية المعرفة فيها هي الوصول الى المثل الأعلى الجدير بأن يحتذى، وللمعيار الذي تقاس عليه مختلف التجارب الإبداعية، وهذا المثل يتجاوز به الإنسان حدود واقعه، بكل ما يحمله هذا التجاوز من إيجابية الانضباط والترابط الاجتماعي، ومن سلبية الاستهانة بالتجربة الفردية وحيويتها وابداعها وطموحها للأفضل (( اُنظر منى طلبة، سبق ذكره، صص. 124ـ134)).

اِتّخذ أبو العلاء المعري العقل مطية لفهم كلّ ما يحيط به، ويظهر ذلك في كل أعماله من قبيل "اللزوميات" و"سقط الزند" و"رسالة الغفران" و"رسالة الملائكة" و"رسالة الفصول والغايات". إنه يعتبر كل عقل نبيًّا. والعقل لا حدود تمنعه من الخيال. ولعل الأسطورة أفضل أبواب التخيل التي اِستخدمها المعري في كتاباته خاصة ما تعلّق بالدين. "لم يقف أبو العلاء عند حدود إدراك تناقضات النفس الانسانيّة. [...]. وهنا تكمن حرية أبي العلاء وصدقه، فلا صدق ولا حريّة في اختيار يجبر الانسان عليه أو يجهله، ولا صدق ولا حرية في اختيار لا يعقبه التزام باجتهاد وموازنة… وكان أبو العلاء صادق الحرية لأنه اختار حدوده، ولأنه كره الاتباع والتقليد، ولأنه أخلص لدعوة التحرير والتطور حتى خشي أن يصبح هو نفسه جزءًا مما استنكره، وأبى أن يكون صنما، وبلغت نزاهته حدا مثيرا حين دعا مخاطبا لتجاوز فكره، وزجره لمخالفته عَقْلَهُ

والعقل كالبحر ما غيضت غواربه *** شيئا ومنه بنو الأيام تغترف (( نفسه)).

بعد أن تعرفنا عن ماهية الأسطورة عامة والأسطورة الأخروية خاصة، ثمّ عن بعض ملامح معتقد أبي العلاء وعلاقته بالدين، نقف الآن عن تجليات الأسطورة الأخروية في أهم أعماله النثرية: رسالة الغفران.

ثانيا - تجليات الأسطورة الأخروية في رسالة الغفران

رسالة الغفران من أهمّ ما كتبه المعري، وتُعَدُّ — بحق — أبرز أثر له. وأطلق عليها هذا الاسم (الغفران)؛ لأن الفكرة الرئيسية التي دفعته إلى إنشائها — وقت إجابته على رسالة ابن القارح — هي مناقشة من فازوا بالمغفرة ومن حُرموها في الدار الآخرة. كان يكثر من سؤال من يصادفه في الجنة: "بم غفر لك؟" كما كان يكثر من سؤال من يجده في النار: "لم يغفر لك قولك…؟ إلخ"٠ ونحسب أنّ أبا العلاء بعد أن لازمته فكرة البعث تلك المدّة الطّويلة، وبعد أن أنضجها في لزومياته، وأتى بها في صور شتى، ردد في كثير منها ميله الشديد إلى استفسار من ماتوا عما لقوه من أصناف النعيم أو العذاب، وود لو أتيح له الظفر بسؤال واحد منهم، ليأخذ عنه اليقين. بعد أن يئس أبو العلاء من مثل تلك الأماني الباطلة، لجأ إلى الخيال— وما أوسع عالمه، إذا ضاق بالإنسان عالم الحقائق — وأودع هذه الرسالة خلاصة أفكاره، وهي في اعتقادنا أوضح صورة شاعرية، قرأناها عن البعث وأحوال النّاس فيه. وقد كتب هذه الرسالة في سنة 424 هـ وهو في الثالثة والستين من عمره (( كامل الكيلاني، رسالة الغفران، سبق ذكره، ص. 9)).

لقد أطلقنا على الرسالة مصطلح "مغامرة". تعتبر هذه "المغامرة" القناة التي ربطت بين زمنين أو عصريين تحول لقاؤهما إلى قضية جوهرية في الرسالة، وهي البعث. وفي مثل هذا البحث، حاولنا أن نلم بهذا الموضوع من خلال البنية الفنية لرسالة الغفران، لأننا نؤمن بأن عملية التشكيل الفني دالة في حد ذاتها، كما أنها على ارتباط عضوي بالمضامين التي أفرزتها. لذلك اخترنا معالجة الظاهرة الأسطورية الأخروية انطلاقا من استنطاق مستوى المغامرة والتركيز عليها. واكتفينا بإشارات خفيفة إلى ثلاثة مستويات لهذه الرسالة، أولا الزمان، ثانيا المكان وأخيرا الشخصيات.

   1- الزمان والأسطورة الأخروية في رسالة الغفران

يعد الزمن من أبرز الدعائم التي تأسس عليها عالم رسالة الغفران المعقد، شأنه في ذلك شأن الشخصيات والمكان الذي يرتبط به. وهو إلى جانب ذلك كله، دعامة يرتكز عليها نص الرسالة، التي يمكن أن نعطيها مصطلح المغامرة "القارحية". ومن أسس أي مغامرة، تحديد الفترة الزمنية التي تتحرك في حدودها الشخصيات وتدور فيها الأحداث. كما أن الزمن يشمل المدة أو الديمومة التي تستغرقها المغامرة، لاسيّما أنّ الأحداث تنمو وتنضج في ظل بداية ونهاية محددتين. يعتبر هذا المستوى في دراسة زمن المغامرة أوليا لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه يحدد تجليات الأسطورة من ميلادها إلى زوالها. والزمن بهذا المفهوم هو الإطار الخارجي الذي يحتضن سيرورة الأحداث القصصية ويحدد موقفها من الدورة الزمنية. كما أنه شرط من شروط تحقق المغامرة واكتمالها، إذ في ظله تنمو تلك الأحداث ثم تنفرج، وفي ظله كذلك تظهر الشخوص وتتطور وتنضج.

تُعدّ هذه الوظائف الزمنية في أي عمل أدبي مفاهيم عامة للغاية أو مشتركة، لكن في رسالة الغفران، وبعد استقرائنا للظاهرة الأسطورية، لاحظنا أنها تتجاوز هذا البعد الضيق، لتصبح مركز الحبكة فيه، ذلك أن الزمن انقلب في الرسالة إلى إشكالية قائمة بذاتها. وعلى هذا الأساس، نلاحظ أن هناك ثنائية زمنية بنيت عليها رسالة الغفران. الزمن الأول هو زمن عام وحقيقي، لأنه مجرد إطار خارجي للمغامرة. يبدأ هذا الزمن من وصول رسالة ابن القارح إلى أبي العلاء، فهو زمن واقعي لا ينص على خصوصية الظاهرة الأسطورية ولا يقدم شيئا عن ميلادها. أما الزمن الثاني فيعد زمنا خاصا وهو الأساس في نظرنا، لأنه الموضوع الرئيسي في رسالة الغفران، وهو على هذا الأساس إشكاليته الرئيسية. ومن هذا المنطلق نخلص إلى أن زمن المغامرة كان زمنا حيويا ومرنا لأنه تطور عبر السياق القصصي من وظيفة خارجية واقعية إلى وظيفة داخلية خيالية٠ فنقرأ: "وصلت الرسالة التي بَحرها بالحِكَم مسجور [...]. ولعله — سبحانه — قد نَصَبَ لسطورها المنجية من اللهب معاريجَ من الفضة أو الذهب، تعرج بها الملائكة من الأرض إلى السماء، [...]. وفي تلك السطور كَلِم كثير، كله عند البارئ — تَقدَّسَ — أثير، وقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل — إن شاء الله — بذلك الثناء شجرٌ في الجنة لذيذ اجتناء" (( أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، تحقيق عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، صص. 139ــ140)).

لم يخل الإطار الزمني في هذا المقتطف من مظاهر الطرافة والتفرد، وتفرّده يتجلى في اقترانه مباشرة برسالة ابن القارح ثم رحلته إلى العالم الآخر. لقد اِنتقل السرد من زمن واقعي يمكن وصفه بزمن الوعي إلى آخر أسطوري، يوصف بزمن اللاوعي، زمن المغامرة الحقيقي الذي يعد مركز الأسطورة الأخروية. أصبح هذا الزمن، بداية رحلة ابن القارح، المنظور المشكل

لرسالة الغفران، أي أنه بمثابة العالم الأكبر في حين أن الزمن الحقيقي اختفى وتلاشى. ارتبط الزمنان ارتباطا وظيفيا وكان لهما أبعد الأثر في سيرورة المغامرة وبلورتها، ذلك أن الانطلاقة الأولى شكلها الواقع لتعود إليه في الجزء الثاني من الرسالة. وبين هاتين النقطتين تشكل زمن الأسطورة الأخروية التي هي الموضوع الرئيس في الجزء الأول.  لم يحدث هناك ضرب من الفوضى في عرض الأحداث، بل ولد عبر قناة الرحلة زمن آخر هو زمن ابن القارح الذي أصبح يشكل في الرسالة فترة من فتراته الزمنية.

لقد خلق المعري إطارا زمنيّا للمغامرة منذ أن بدأت رحلة ابن القارح إلى العالم الآخر. فهذا هو الزمن المهم الذي يحرك الرسالة، أما عن زمن الراوي الحقيقي فقد جاء إشارات طريفة وكأن الراوي يتذكر شذرات من حياته وحياة بطله ابن القارح في الدنيا. فنقرأ تذكرّه شعر عدي بن زيد: "وكنت بمدينة السلام. فشاهدت بعض الوراقين يسأل عن قافية عدي بن زيد" ٠ ونقرأ معرفته بخلف الأحمر: "وهو ــ أدام الله تمكينه ــ يعرف حكاية خلف الأحمر مع أصحابه في هذين البيتين" ٠ ويواصل ابن القارح عرض بعض الأسماء والأحداث الواقعية. فيقول: "وكأني به — وقد استحق تلك الرتبة — وقد اصطفي له ندامى من أدباء الفردوس كأخي ثمالة وأخي دوس ويونس بن حبيب الضبي وابن مسعدة المجاشعي، [...]. فصَدْرُ أحمد بن يحيى هنالك قد غُسل من الحقد على محمد بن يزيد، فصارا يتصافيان ويتوافيان، وأبو بشر عمرو بن عثمان سيبويه قد رُحضتْ سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة الكسائي وأصحابه لما فعلوا به في مجلس البرامكة، وأبو عبيدة صافي الطوية لعبد الملك بن قريب" (( نفسه، صص. 168ــ171)). ولا ينسى عصر هارون الرشيد الذهبي: "وقد وجدت في بعض كتب الأغاني صوتا غنته الجرادتان [...] ومن الذي نقل الى المغنين في عصر هارون وبعده"(( نفسه، صص. 243ــ244)).

إنها إشارات لأحداث بتواريخها ومناسباتها. لكن يبقى زمن العالم الآخر أساس المغامرة. وقد يقارنه المعري بزمن الدنيا. ولنا موقفان في ذلك: زمن النزهة وزمن البحث عن الشفاعة. ففي الأول يقول: "ثم إنه — أدام الله تمكينه — يخطر له حديث شيء كان يسمى النزهة في الدار الفانية، فيركب نجيبًا من نجب الجنة خُلق من ياقوت ودُرٍّ، في سجسج بَعُدَ عن الحر والقَرِّ. فيسير في الجنة على غير منهج ومعه شيء  وفي الزمن الثاني، نقرأ: "أنا أقص عليك قصتي: لما نهضت أنتفض من الرَّيْم، وحضرت عرصات القيامة، [...] فطال علي الأمد واشتد الظمأ والحر. [...] فلما أقمت في الموقف زهاء شهر أو شهرين، وخفت من الغَرَق في العَرَق، زينتْ لي النفس الكاذبة أن أنظم أبياتًا في رضوان خازن الجنان [...] والتفت إبراهيم — صلى الله عليه — فرآني وقد تخلفت عنه. فرجع إليَّ. فجذبني جذبة حصلني بها في الجنة، وكان مقامي في الموقف مدة ستة أشهر من شهور العاجلة. فلذلك بقي على حفظي ما نزفته الأهوال، ولا نهكه تدقيق الحساب من طعام الخلود" (( 175 نفسه،ص)) وفي الزمن الثاني، نقرأ: "أنا أقص عليك قصتي: لما نهضت أنتفض من الرَّيْم، وحضرت عرصات القيامة، [...] فطال علي الأمد واشتد الظمأ والحر. [...] فلما أقمت في الموقف زهاء شهر أو شهرين، وخفت من الغَرَق في العَرَق، زينتْ لي النفس الكاذبة أن أنظم أبياتًا في رضوان خازن الجنان [...] والتفت إبراهيم — صلى الله عليه — فرآني وقد تخلفت عنه. فرجع إليَّ. فجذبني جذبة حصلني بها في الجنة، وكان مقامي في الموقف مدة ستة أشهر من شهور العاجلة. فلذلك بقي على حفظي ما نزفته الأهوال، ولا نهكه تدقيق الحساب (( نفسه، صص. 247ــ267)).

لقد تجاهل أبو العلاء المعري تماما زمن وصول رسالة ابن القارح إليه ولم يعد إليها إلا في الجزء الثاني من رسالته. والأهم من ذلك أننا لاحظنا أن زمن المغامرة الذي يبدأ في مستهل الرسالة منطلقا للأحداث القصصية وإطارا كبيرا لها، أخذ يتضخم إلى أن تحول إلى موضوع جوهري في الأثر له شخوصه وأمكنته. وهكذا تواصلت المغامرة ضمنيا في الرسالة وذابت في أحداثها. تحوّل زمن المغامرة عبر الأحداث إلى يقظة مستمرة خلافا لما كنا نتوقع، والعلاقة التي قامت بينه وبين موضوع المغامرة علاقة إفضاء لا تناقض، ذلك أن الرحلة لم تتعارض مع الواقع، وإنما أفضت إليه وذابت فيه وانحلت في عناصره، محولة بذلك إطار المغامرة الأسطورية إلى موضوع لها. وقد استطاع بالإضافة إلى ذلك ان يجزّئ الموضوع ذاته إلى فترتين لكل منهما أزمنتها وأمكنتها وشخوصها: فترة ابن القارح الحقيقية بكل حيثياتها. وفترة ابن القارح في رحلته إلى العالم الآخر بكلّ أساطيرها.

وخلاصة القول، يعتبر زمن البعث ومغامرة ابن القارح في العالم الآخر الزمن الرئيس في الرحلة. وقد اكتفى أبو المعري بالإشارة إلى الزمن الحقيقي حين عاد السارد إلى الدار الفانية أو العاجلة ليسرد وقائع أو يروي حكايات بتواريخها ومناسباتها سردًا عَرَضيّا في مواطن متفرقة من الرسالة. وفي أغلب الأحيان، كانت هذه التلميحات والإشارات خادمة للزمن الأسطوري للمغامرة. بعد تتبعنا لأحداث الرحلة، نرى أنّ أبا العلاء المعري قد وضع القارئ أمام أمر واقع وهو أنّ ابن القارح مات وبُعِث من جديد، لكنه لم يخبرنا بكيفية حدوث ذلك. ويمكن تفسير ذلك بسببين: إمّا أنّه يؤمن يقينا بالبعث الذي يعتبره البعض أضغاث أفكار، وقد ظهر هذا الإيمان من خلال اِستشهاده بآيات القرآن، أو إمّا أنّه يريد أن يدخل إلى العالم الآخر دون مقدمات لأنّ ذلك هو غايته المنشودة، فإن كان البعث حقيقة أو أسطورة فالمهم أنه استطاع بخياله الواسع أن يتصوّر العالم الآخر. ولقد وجدنا أبا العلاء المعري يطلق العنان لخياله للحديث عن العنصر الثاني من المثلث الحكائي ألا وهو المكان.

رابط الجزء الثاني https://cle.ens-lyon.fr/arabe/litterature/classique-et-nahda/al-ustura-al-ukhrawiyya-fi-risalat-al-ghufran-2

 

Pour citer cette ressource :

Salim Gasti, الأسطورة الأخروية في رسالة الغفران - الجزء الأول, La Clé des Langues [en ligne], Lyon, ENS de LYON/DGESCO (ISSN 2107-7029), octobre 2023. Consulté le 07/11/2024. URL: https://cle.ens-lyon.fr/arabe/litterature/classique-et-nahda/al-ustura-al-ukhrawiyya-fi-risalat-al-ghufran-1