حين تصرخ فلسطين بصوت محمود درويش: يا أيها الشعراء لا تتكاثروا
جريدة القدس
الاثنين - 24 مايو 2021 - رشيد المومني
في سباق استعادة النكبات التي أصابت القضية الفلسطينية، يمكن أيضا استعادة أهم نماذج التفاعلات المحايثة والموازية لها. لعل أهمها، أولا – تضامن الجماهير العربية اللامشروط. وثانيا- تهافت الأنظمة العربية عليها، باتخاذها ذريعة لخدمة أجنداتها الخاصة بها. وثالثا- تحولها إلى قبلة «مقدسة» يولي المبدعون قرائحهم شطرها، وفي مقدمتهم الشعراء، بدليل آلاف الدواوين المنجزة في الموضوع. بشقيها التقليدي والحداثي، وهو الإشكال الذي يعنينا أساسا في هذه الورقة، ذلك أن المبدع العربي جد مقتنع في قرارة نفسه، بأن جواز دخوله الفعلي إلى المؤسسة الإبداعية، يكمن في تكريسه حصة أساسية من كتاباته لخدمة القضية الفلسطينية. كما لو أن الأمر يتعلق بنوع من العشق/الواجب الاضطراري، الذي لا مناص للمبدعين كافة بمختلف اختصاصاتهم، من الانصهار في لهيبه.
فمن خلال انتماء المبدع إلى تجربة الزمن الفلسطيني، يتوهم أنه سيتمكن فورا من إحراق الكثير من المراحل، التي ما كان له أن يحلم بتجاوزها، لولا نزوعه الممنهج إلى توظيفه لمقومات هذا الزمن. ما يحفزه على السير حثيثا باتجاه انتزاع اعتراف المهتمين والملاحظين. ذلك أن حضور الزمن الفلسطيني في العمل الشعري، التشكيلي، أو السردي فضلا عن الموسيقي، والسينمائي، يعني بالنسبة للمتلقي امتلاكه لمقومات المصداقية والشرعية. كما أن أهمية هذا المقومات، تكمن في حجبها لما يمكن أن يتخلل «العمل» من هنات وسقطات فكرية أو جمالية. الشيء الذي سيسمح لصاحبه بالتواجد في الصفوف الأمامية من المشهد الإبداعي أو الفني، بدون أن يكون بالضرورة معنيا يبذل أي مجهود معرفي يذكر، والنتيجة، أطنان من الدواوين، والروايات، والمداهنات الفكرية، فضلا عن جبال مصطفة من الأقراص السينمائية والموسيقية، المسرفة في الغثاثة والإسفاف.
ولن يفوتني في هذا الإطار، الإشارة إلى إشكالية على درجة مذهلة من الطرافة، ومفادها أن هذه التراكم الفني والإبداعي، وبصرف النظر عن أهميته الجمالية أو دونيته، يتحول تدريجيا إلى بديل، يختزل جماع الإشكاليات السياسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، خاصة بالنسبة للنخب المثقفة. بمعنى أن البعد الواقعي المادي والموضوعي لفلسطين، بوصفها أرضا محتلة، تعاني جهارا، وتحت أنظار المنتظم الدولي، من اضطهاد أعتى الممارسات الاستعمارية، والاستيطانية، وأشرسها. هذا البعد الواقعي والمادي، لا يلبث أن ينمحي تماما، فلا يتبقى منه سوى أطيافه الباهتة، التي تتباهى ببلورتها هذه الأعمال الإبداعية، والفنية والفكرية، وبالتالي، فإن المتلقي من فرط إدمانه لحالة لهذه الأعمال، وطبعا في سياق انتصاره للقضية الفلسطينية، وفي أقل لأحوال، ضمن سياق تعاطفه معها، يكون عمليا بصدد تنحيته الشاملة لأي علاقة فعلية وملموسة تربطه مباشرة بها. وتبعا لذلك، فإن الأسئلة الحارقة والميدانية المرتبطة بالقضية، تختفي جملة وتفصيلا، ولا يبقى سوى العمل الأدبي، الفني، أو الفكري، يدعوك لإمعان النظر في سماته وملامحه، باعتباره بديلا «مقنعا» لكل ما له صلة بالقضية الفلسطينية.
إن الأمر هنا، شبيه بتلك الممارسة التطهيرية والاستشفائية « Thérapeutique»، التي تتخفف الذات بواسطتها من عنف الاصطدام المباشر بواقع الزمن الفلسطيني. لاسيما وأنها أمست عاجزة تماما عن تحمل نوائبه ونكباته وانتكاساته، وكل ما يحاك ضده في الخفاء والعلن من مكائد، يشيب من أهوالها الولدان.
قراءة المزيد