أغاني المهرجانات في مصر: بين الجدل والتجديد
Cet article a été rédigé dans le cadre d'un stage à l'ENS de Lyon
مقدمة
إنّ الموسيقى لغة خاصة من لغات الشعوب وإنّ أبرز أعمدتها هي الأغنية الشعبية، فالأغنية الشعبية هي التعبير الفني الذي ينسجم مع جماعة من الناس يشتركون في الحياة في منطقة محددة، سواء كانوا سكان ريف أم بدو أم حضر. تنشأ هذه الأغاني غالباً في سياقات اجتماعية مثل الأعراس والختان وحصاد المحاصيل، وتتنوع من أغانٍ للأطفال إلى أغانٍ احتفالية وغيرها. تتميز الأغنية الشعبية التقليدية ببساطة اللحن واستخدام الآلات الموسيقى المحلية مثل الطبل والدف والناي. ورغم تنوع الأغاني الشعبية من منطقة إلى أخرى في الكلمات واللحن، فإنها تتشارك في تناول قضايا تهم الجماعة وتعكس ثقافتها وتقاليدها كما تتميز في كونها واسعة الانتشار إّلا أنه ليس بالضرورة أن تكون كل أغنية سهلة اللحن ومنتشرة هي أغنية شعبية. إن الأغاني الشعبية عادة ما تكون مرآة للمجتمع وتعبيراً عن حياته وتجاربه، وتتطور الأغاني الشعبية مع مرور الزمن لتعكس التغيرات الاجتماعية والثقافية في المجتمعات التي نشأت فيها ويكون هذا التغيير على مستوى المضمون واللحن والوظيفة المجتمعية التي تؤديها.
1- أغاني المهرجانات تجسيد للتحولات الفنية في الأغنية الشعبية
إن نظرنا في تاريخ الفن الموسيقي المصري نجده متجدداً ونجد أن في كل عصر تظهر حالة تتميز أو تتفرد بأسلوب خاص، فإليكم موسيقى "التخت الشرقي" التي كانت تقوم عليها أغاني أم كلثوم، والمكونة من عدة آلات موسيقية شرقية كالناي والعود والقانون والبزق والدفّ ثم الكمان الذي أضافه الموسيقي السوري أنطوان الشوا ثم التشيلو والكنترباص الذين أضافهما محمد القصبجي مع بداية القرن العشرين، وما تلا ذلك من محاولات بحث عن مساحات جديدة من اللحن وتعاون المايسترو محمد عبد الوهاب مع أم كلثوم وإضافة عنصر الإلكتريك جيتار للفرقة الموسيقية. يظهر التجديد أيضاً في الأسلوب الفني للمطرب، فنلاحظ أن عبد الحليم حافظ حاول في بداية مسيرته تأدية لون جديد من الغناء بأسلوب مختلف عمّا كان يقدمه سلفه محاولاً كسر ما حافظوا عليه، وهي "الحدود التقليدية" مع الجمهور على حد تعبير محمد عبد الوهاب. استمرت التحولات والتغييرات في عالم الغناء والموسيقى وانتشرت الأفراح الشعبية التي تستقدم فرقاً موسيقية مصحوبة بمغنٍ يقدم المواويل وأغاني الفرح في نهاية الستينيات، ووصلنا إلى زمن أحمد عدوية الذي غنى"السح الدح إمبو" وأحدث ثورة في الأغنية الشعبية قوبلت في بدايتها بالاستهجان الكبير والاتهام بإفساد الذوق العام لكنه استطاع بفنه إعادة الموال إلى الساحة ومنافسة أكبر المطربين حينها، وجمع حوله أهم العازفين الذين أضافوا إلى حلاوة صوته الإيقاعات المبهجة، حتى إن نجيب محفوظ أبدى إعجابه بفن عدوية في البرنامج الإذاعي "شاهد على العصر" الذي كان يقدمه عمر بطيشة.
أخذت الأغاني الشعبية بعد السبعينيات تتجه نحو الفرح وأصبح الإيقاع أكثر سرعة لمواكبة التغييرات بعد الانفتاح الاقتصادي في مصر مع أغنيته "زحمة يا دنيا زحمة". لكن حِقبَة الثمانينيات لم تكن هيّنة على الشعب المصري من غلاء معيشي وصعوبات حياتية، فظهر نمط من الأغاني الشعبية الحزينة لاقى رواجاً كبيراً كأغنية "متغربين" لمحمد فؤاد وأغنية "كتاب حياتي يا عين" لحسن الأسمر. ثم أتى حكيم الذي أعاد البهجة بالتعاون مع المطرب والملحن والموزع حميد الشاعري وتم في هذه المرحلة المزج بين الموسيقى الغربية والموسيقى العربية. أصبحت الأغاني تتميز بقصرها وسرعة إيقاعها ومعانيها البسيطة، بالإضافة إلى عذوبة صوت المغني. عقب ذلك، توالى الفنانون الشعبيون مثل شعبان عبد الرحيم وحكيم وعبد الباسط حمودة ومن بعدهم سعد الصغير وأمينة وبوسي وغيرهم وانتشر نوع من الغناء التجاري حتى ثورة يناير 2011.
توالت التحولات بشكل مستمر، ومن بين هذه التحولات برزت ظاهرة الأغاني الشعبية "المهرجانات" كظاهرة فنية واجتماعية مثيرة للجدل، بدأت تنتشر في الأحياء المهمشة وفي ضواحي المدن وأحدثت تحولاً كبيراً في عالم الغناء الشعبي مستبدلة كل ما سبق ذكره من آلات موسيقية وأسلوب ورسالة فنية إذ إنها جمعت بين عناصر موسيقى الراب والتكنو وأُطلِق عليها اسم "الإلكترو الشعبي". غيَّرت المهرجانات مفهوم المستمع عن تكوين الحفلة الموسيقية القائمة على مطرب وفرقة من العازفين، فاستبدلت ذلك بما يعرف بال "دي جي" وأصبحت الموسيقى توَلّد على أجهزة الكمبيوتر، وأصبح مغنيو "المهرجان" يؤدون أغانيهم بإيقاع سريع ومحفّز، ويمزجون بين موسيقى الراب وأغاني الأفراح المصرية التقليدية. ثم بدأت "المهرجانات" في التعبير عن تحديات وتجارب الشباب في المجتمع المصري المعاصر بأسلوب فني يلامس تجاربهم اليومية وبلغة مباشرة توظف كلاماً غير معتاد سماعه علناً، ويوصف أحياناً بالنابي أو الفجّ.
مما لا شك فيه أن أغاني المهرجانات أزالت الفجوة الطبقية التي كان يشعر بها معظم الجمهور تجاه المطربين التقليديين، فلم يتكلف مغنيو المهرجانات في تقديم أنفسهم إلى جمهورهم فظهروا بملابس يومية يلبسها معظم الجمهور وعبروا عن حياتهم وتجاربهم بلغة قريبة ومألوفة، وهذا ربما ما يفسر استحسان الجمهور لرداءة صوت بعض مغنيي المهرجانات، فالمغني هو فرد من الشعب يشبهه في كل شيء. ونجح مغنيو المهرجانات بعد حرمانهم من المسارح الحكومية والخاصة في توسيع جمهورهم بواسطة الإنترنت على عكس الجيل السابق الذي كان يعتمد على المسارح ودور الأوبرا. أتت المهرجانات كرد فعل على طبقية صناعة الموسيقى في مصر التي يحكمها المال والعلاقات النافذة، وبرهنت أن صناعة الموسيقى باستخدام البرامج الصوتية الإلكترونية أمر أكثر إمكانية ويتطلب جهداً ووقتاً أقل، ناهيك بأنها قد لا تحتاج إلى استوديوهات تسجيل، إذ إن هذا النوع من الموسيقى، أو قسماً كبيراً منه، من الممكن صناعته في المنزل باتباع بضع خطوات تتمثل في استخدام برامج تأليف وتسجيل موسيقي مثل "ACID PRO" و "FL STUDIO"، ثم خلق إيقاع ضمن تكرار معين والغناء معه. قد لا تُقارن تكلفة صناعة "المهرجانات" بتكلفة صناعة الأغاني التقليدية أو الطربية نتيجة اعتمادها على التكنولوجيا، إلّا أن الأرباح التي تحققها عالية جداً.
2- .. وتجسيد للتحولات الاجتماعية والسياسية
يمكننا التعميم أن البهجة كانت حاضرة في الأغنية الشعبية إلى بداية ظهور أغاني المهرجانات في 2007 تقريباً وانتشارها الواسع بعد ثورة 2011. بوصف الفن ناقلاً لحال المجتمع الذي يعاني من الفساد السياسي والتضخم المالي وغيرها من المشاكل المؤرقة، تغيرت نبرة صوت المغنين لتصبح مزيجاً مما تعيشه المناطق الشعبية من الشعور بالغضب والانفلات والصراخ والعداء حتى الفرح الذي لم يغب أيضاً على الرغم من كل شيء. فكان ظهورها ثورة على أغاني ما قبل "ثورة يناير"، فقد كانت الأغاني تتكلم كثيراً عن الحب والخيانة ومواضيع بعيدة عن قضايا الناس في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ الشعب المصري المعاصر، فأتت "المهرجانت" وهتفت ضد العسكر ورثت الشهداء.
بعد ثورة 2011 ومع صدور أغنية "مهرجان ثورة يناير"، بدأت ظاهرة "المهرجانات" تتجاوز حدود المناطق الشعبية ولاقت انتشاراً واسعاً بين الشباب حيث غدت تعبيراً جماعياً خارج القيود الاجتماعية والسياسية المفروضة على شعب سئم في أن يبقى على هامش الاعتبارات. أصبح قسم كبير من الشعب المصري يرى أن هذه الظاهرة تمثل استجابة لتطلعاته نحو التغيير وحرية التعبير، وأنها صرخة مقاومة تطلقها الطبقات الأقل حظاً في المجتمع بهدف إحداث تغييرات اجتماعية وسياسية. من الناحية الاجتماعية كانت فئة الشباب واليافعين هي من تتقبل هذه "المهرجانات"، بل ومنهم من اتخذها نوعه المفضل، لكن مع الوقت أصبح كثير من المشاهير يستمعون إلى بعضها وأصبح مغنو "المهرجانات" ضيوفاً مرحبا بهم في برامج منوعة على الفضائيات المصرية. وتدريجياً، انتشرت هذه الأغاني على مواقع التواصل الاجتماعي وأصبحت جزءاً من الثقافة الشعبية المصرية.
من الواضح أن "المهرجانات" أزالت شيئاً من الفوارق بين الطبقات الاجتماعية فأصبح كثير من أبناء الطبقات الراقية يستقدمون مغنيي المهرجانات لكي يُحيوا لهم حفلات الخطوبة أو الزفاف أو غيرها من المناسبات. كانت تقوم صناعة أغاني "المهرجانات" بجهود مغنيّها الفردية ثم دخلت شركات الإنتاج الكبرى في صناعتها وأصبحت تظهر على التلفاز وفي الأفلام مثل فريق (8 %) في الفلم الشهير "عبده موته"، وتنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما شارك بعض مغنيّها في الترويج للحملات الانتخابية.
من بين المغنين البارزين في هذا النوع من الموسيقى، نجد أسماء مثل كزبرة وويجز وميدو وأوكا وأورتيجا وأحمد فيجو وعمرو حاحا وحمو بيكا وحسن شاكوش وعمرو كامل، وغيرهم الكثير. ومن الأغاني الشهيرة التي تنتمي لهذا النوع، نجد (مهرجان الوسادة الخالية) و(مهرجان قزقز كابوريا) و(مفيش صاحب بيتصاحب) و(بنت الجيران)، ومن أهم الفرق (مافيا العظماء) و(المدفعجية) و(الدخلوية) و (8 %).
3- الظاهرة والجدل
تُعد أغاني المهرجانات ظاهرة مثيرة للجدل في المشهد الموسيقي المصري، فهي ليست فقط موسيقى ترفيهية، بل تُظهر واقعاً معقداً. يرى البعض فيها تعبيراً حراً وجديداً عن طبقة معينة من الشعب، في حين يرى البعض الآخر محتوىً مسيئاً للذوق العام وتشجيعاً على السلوكيات السلبية.
بدأت المشاكل تظهر بعد صدور أغنية "بنت الجيران" لحسن شاكوش وعمرو كمال وتغريدة إيلون ماسك بأن أغنية شاكوش احتلت المركز الثاني على منصة الاستماع ساوند كلاود. وبدأت نقابة المهن الموسيقية محاربة هذا النوع بوصفه بذيئا ويتطرق بكثرة لقضايا الغزل الخادش للحياء والجنس والبلطجة والحشيش كما في عبارة شاكوش التي تم تغييرها فيما بعد في أغنية "بنت الجيران" (أشْرَب خمور وحشيش). أدت "المهرجانات" في بعض الأحيان، نظراً لطريقة صناعتها، إلى ارتفاع نسبة البطالة بين الموسيقيين التقليديين الذين يجدون صعوبة في المنافسة مع هذا النوع الجديد من الفن. مع انتشار هذا النوع من الموسيقى، بدأت جهود لمحاربته واعتباره من قبل البعض بذيئاً وغير ملائمٍ للجمهور العام، فتصدّر الراحل الملحن حلمي بكر الذي كان له دور في تحليل الظواهر الموسيقية التي ظهرت على الساحة الغنائية قائمة المناهضين لظاهرة "المهرجانات"، كما حاولت نقابة المهن الموسيقية منعهم من الغناء ثم حاولت تقنين عملهم وفرض الرقابة عليه، لكن هذا النهج سبّب أيضاً نقداً كبيراً بوصفه سَجناً للفن، فلم يؤيد كثير من الفنانين والنقّاد قرار النقابة ووصفوه بالعشوائية، ومن الجدير ذكره أن مجلة رولينغ ستون الأمريكية صنفت هذه "المهرجانات" في عام 2014 بمنزلة "ثورة موسيقية مصرية". كما أنها لاقت التغطية الصحفية الأكبر عام 2015 فيما يخص الموسيقى العربية.
خاتمة
مهما كانت الآراء متباينة في أغاني المهرجانات، فإنها تمثل جزءاً من تطور أو تبدّل الأغنية الشعبية وتلقى تفاعلاً كبيراً من الشباب الذي يرى فيها تعبيراً عن واقعهم المَعِيش. قد تكون هذه الظاهرة تجديداً للمشهد الموسيقي، أو رغبة من صناعها في تحقيق تغيير اجتماعي وسياسي أو حتّى تطلعاً منهم نحو الشهرة.
في نهاية المطاف، يمكننا أن نتساءل : هل تنضوي أغاني المهرجانات تحت مفهوم الفن من حيث هو إبداع يثير المشاعر والعواطف ؟
المصادر
أحمد عدوية | الدحيح (youtube.com)
مهرجان الثورة 25 يناير : Vidéos Bing
De la taqtuqa au mahraganat : Retour sur la musique populaire en Égypte - Observatoire Pharos
Mahraganat: Egypt's Musical Revolution (rollingstone.com)
Pour citer cette ressource :
أغاني المهرجانات في مصر: بين الجدل والتجديد, La Clé des Langues [en ligne], Lyon, ENS de LYON/DGESCO (ISSN 2107-7029), mars 2024. Consulté le 07/11/2024. URL: https://cle.ens-lyon.fr/arabe/arts/musique-et-danse/aghani-al-mihrajanat-fi-misr-bayna-l-jadal-wa-l-tajdid