قصر الحمراء الغرناطي: صورة لحضارة ورمز لجبروت
مارس 2018
ابراهيم العريس
ينقل الباحث الفرنسي جان هيبوليت عن الفيلسوف الألماني هيغل تفسير هذا الأخير لعظمة واستثنائية الفنون العمرانية الإغريقية ولا سيما منها ما يتعلق بتفاني المواطنين في بناء المدن وزخرفتها والعناية بكل تفاصيل التفاصيل فيها، من دون أن يهتم أيّ من أولئك المواطنين بأن يخلّد التاريخ اسمه، فيقول أن المواطن إنما كان يشعر بأنه أنجز وحقّق ذاته في المدينة التي يعتبرها الاستمرار المنطقي المتحدث عن مروره في هذه الحياة الدنيا. ويكاد هذا القول يبدو متطابقاً مع ذلك القول الذي أُثر عن السينمائي جان رينوار حين تحدّث عن بناة الكاتدرائيات الكبرى في مدن العصور الوسطى من الذين لم يبق للتاريخ أثر لاسم من أسمائهم وكانت مكافأتهم أن خُلّدت الأعمال العمرانية الكبرى التي ساهم كل واحد منهم في تشييدها. ولعل في إمكاننا تذكّر شيء من هذا القبيل بالنسبة الى الحضارة العربية/ الإسلامية، في كل مرة يطالعنا فيها أثر عمراني كبير من الآثار التي بقيت من تلك الحضارة. فالحقيقة أنه لئن أبقى لنا التاريخ على أسماء وذكر مؤلفي الكتب وناظمي الأشعار ومبتدعي الفنون الموسيقية وصانعي الأفكار وأمثالهم، فإنه نادراً ما كان يترك لنا شيئاً من ذكر كبار العمرانيين، وبالتالي صغارهم. ومع هذا، فإن تلك الصروح تبقى الأكثر حضوراً في الحياة العامة والأكثر جدارة بأن يحكى عن أولئك العباقرة الذين شيدوها... ومن بين تلك الآثار العمرانية العظيمة التي بقيت حتى اليوم شاهدة على تلك المآثر العمرانية الكبرى يمكننا دائماً أن نتوقف بالطبع عند ذلك القصر المنيف الذي لا يزال شامخاً حتى .اليوم في الأندلس الإسبانية يُحدّث ملايين الزائرين سنوياً عن روعة تلك الحضارة التي مرّت ذات يوم من هنا: الحضارة الأندلسية العربية وما نتحدث عنه هو في غرناطة اليوم، أشهر القصور الأندلسية، والموقع الذي يزوره القادمون الى إسبانيا أكثر من أي موقع آخر. وهو في الوقت نفسه أشهر وأعظم ما خلفته الحضارة الإسلامية في الأندلس من آثار عمرانية: القصر الذي يقف شامخاً في المدينة الأندلسية العريقة شاهداً على تقدم تلك الحضارة التي بنته ذات يوم، وشاهداً أيضاً على الفنان حين يختفي وراء فن حسبه منه أن يوجد وأن يبقى بعدما يندثر هو وتزول ذكراه. وفي هذا ما يذكّر، كما أشرنا أوّل هذا الكلام، ببناة المدن الإغريقية في العصور الغابرة، وببناة الكاتدرائيات الكبرى في العصور الوسيطة. ففي الحالات الثلاث معاً نعرف أن الفن نفسه يبقى فيما يختفي مبدعوه. فاليوم يكاد يكون من المستحيل أن .نعرف اسم المهندس المعماري - أو المهندسين العديدين - الذي أنشأوا قصر الحمراء موضوع حديثنا هنا. لكننا نعرف بالطبع أسماء الحكام الذين أمروا بإنشائه وأنشئ في عهدهم وطُوّر وحُسِّن في عهد خلفائهم، ليشهد مؤامرات القصور والصراعات على العروش وجبروت السلطة والسقوط الأخير في نهاية المطاف. وذلك هو قدر هذا النوع من المشاريع.