Vous êtes ici : Accueil / Revue de presse / Archives Revue de presse - 2021 / «برشا» التونسية: من الفصحى إلى العامية

«برشا» التونسية: من الفصحى إلى العامية

Publié par Faten Ajmi le 28/01/2021

صحيفة القدس العربي

سبتمبر - 2020

منذ بضع سنوات، شاعت أغنية التونسي صابر الرباعي «برشا برشا/ يا مدلل برشا/ حبك على قلبي تسلل برشا برشا»، ومعها شاعت كلمة «برشا» عند أشقائنا في شرق البلاد العربية وغربها. ومع ذلك بقيت تونسية محلية صميمة، شأنها شأن مفردات شتى تختص بها لهجات العرب؛ ساعدت الأغنية على نشرها عبر المكان والزمان، ولم تساعد على امتصاصها أو إحلالها محل مترادفاتها عندهم أو عندنا. ومرد ذلك على الأرجح، إلى جملة أمور منها أن الترادف في الألفاظ يحوي كما يقول ابن الأنباري (القرن الثالث للهجرة/ 9م) فروقا دقيقة تميز كلمة من أخرى؛ لعلة لغوية؛ فاللفظان الواقعان على معنى واحد، يختلف كل منهما عن الآخر؛ وفيه معنى ليس في صاحبه. وربما كان الفرق من الخفاء والدقة، فيذهب في الظن أنه مجرد تكرار أو تعداد لغوي ليس إلا. ومثال ذلك «جلس» و»قعد»، فالمعنى لا يُعرف إلا بما يتقدم الكلمة، ويتأخر بعدها؛ و»جلس» يقال للمتكئ أو الساجد أو النائم/ فيما «قعد» للقائم أو الواقف؛ على نحو ما جاء في الآية «فَاذْكُرُوا اللَهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُم» (النساء 103)، والجلوس يكون من الأسفل إلى الأعلى، ووقتا أو مكوثا أقل من القعود الذي يكون أطول؛ ولذلك يقال»جليس السلطان» لا قعيده. وحتى لا يحجزني «الترادف» عما أنا فيه، وأنا أكتب هذا قاعدا لا جالسا؛ أقول بإيجاز إنه كلما تمايز دالان، وهما يحيلان على «مدلول واحد» أو»معنى واحد»، فنحن حيال مترادفين أو أكثر؛ وبالمقابل فإنه كلما أشار دال إلى مدلولين أو أكثر، فنحن حيال تجانس «المتجانس»؛ إن لم نكن حيال إشارتين متميزتين تمتلكان خاصية واحدة. وعليه فإن «جنيس» برشا التونسية أو مرادفها، في مصر «قوي/أوي»، وفي بلاد الشام «كثير/كتير»’ وفي ليبيا «هلبا»، وفي المغرب «بزاف»، وفي موريتانيا «ياسر»، وعندنا في تونس أيضا ولكنها ليست مرادفا لـ»برشا»، وفي السعودية «مرة»، وعند الخليجيين «وايد/ واجد»، وفي العراق «هوايه» بتسكين الهاء. والسؤال: من أين تتحدر كلمة «برشا»؟ أهي عربية أم أمازيغية، كما قد يقع في الظن. وأبادر غير متريث بأنها ليست أمازيغية أبدا؛ إذ لا وجود لها عند الأمازيغ في كل بلاد المغرب؛ وإنما اختصت بها العامية التونسية، منذ دخول العرب إلى افريقيا، أي تونس وطرابلس كما كانت تسمى قديما، وهو مصطلح يوناني قبل أن يكون رومانيا. إذن «برشا» عربية صميمة، وهذا يتفرع عنه سؤال سائغ مقبول: ولماذا تونس وليس سائر بلاد المغرب التي فتحها العرب؟ وجوابي وأنا أحاول أن أتقصى أثر هذه الكلمة، وقد فعلت ذلك منذ سنوات بعيدة، لكن من غير أن أحرر مقالا في الموضوع؛ أن أصل هذه الكلمة من الجذر «برش» وهو عند ابن فارس في مقاييسه « أن يكون الشيء ذا نقاط متفرقة بيض»، وعند ابن منظور في لسانه وهو أكثر تدقيقا وتفصيلا، يقال لـ»الأبرش» أي الذي فيه ألوان وخلْط. و»البرش» في شعر الفرس الأبرش (الفرس يذكر ويؤنث): نكت صغار تخالف سائر لونه. ويقال للشاة وللحية الرقشاء التي في لونها نقاط مختلفة برشاء. ويأخذ ابن منظور الافريقي «التونسي القفصي» بأيدينا، حتى يبلغ بنا معنى «الكثرة» و»الاختلاط»؛ فـ»البرشة» بضم الباء لون مختلط حمرة وبياضا أو غيرهما من الألوان. و»برشاء الناس (بفتح الباء) جماعتهم؛ الأسود   والأحمر. ويقول العربي كلما كثر الناس واختلطوا، وتعذر عليه تمييز أحدهم من الآخر: وما أدري أي البرشاء هو؟ أي، أيّ الناس هو. ويقال للسنة الخصبة كثيرة العشب برشاء، وللأرض كثيرة النبت مختلف ألوانها برشاء وربشاء.

وها هنا، يسحب ابن منظور يده، من أيدينا؛ ويعود إلى معجمه حيث ينام نومته الأبدية، ويترك لنا، وقد تحررت يدنا؛ أن نفترض على «برشا» التونسية افتراضاتنا. وعليه نرجح أن هذه الكلمة، إنما أطلقها العرب ما أن وطأت أقدامهم تونس، فقالوا، وقد أخذوا بخضرتها، وكثرة نبتها وعشبها وأشجارها، من جنوبها إلى شمالها «هذه أرض برشاء» وخصوا بها تونس على نحو ما خصوا اليمن بـ»السعيد. والصحراء التونسية ليست كلها قاحلة كما يقع في الظن، ففيها من النبات ما لا يحصى، وأشهره الحلفاء، والنخيل في واحات الجنوب. وفي جبالها وسواحلها تنمو غابات السنديان والبلوط والفلين والزيتون والخروب واللوز والرمان والبرتقال… وكانت تونس تسمى «مطمورة روما»، إذ كانت لخصب أرضها وغزارة إنتاجها، توفر لروما كلها حاجاتها، من الحبوب والخمور وزيت الزيتون؛ منذ أن أعاد يوليوس قيصر بناء قرطاج. وعليه ليس بالمستغرب أن تكون كلمة «برشاء» انتقلت من دلالة مطابقة أي دلالة الشيء على تمام ما وضع له، إلى دلالة تضمن أو التزام، بمصطلحات الدرس البلاغي القديم؛ وصارت تعني «الكــــثرة» وتحديدا «الكثــــير» في كل شيء؛ على إقرارنا بما يقوله المعاصـــرون، من أنه لا أساس من الصحــة إطلاقا، للافتراض القائل بأننا نعرف ـ وبخاصة من أجل المراحل الماضية ـ التمييز بين الكلام الشائع والعدول الفني. ويحسن إجراء دراسة معمقة لكلام الطبقات الاجتماعية في الأزمنة .الغابرة قبل أن نقطع برأي؛ ولا يتسنى لنا بمعزل عن تلك الظروف والملابسات، أن نتوصل إلى فروض راجحة عن أسباب الحدوث الكنائي والتغير اللغوي في اللهجات

قراءة المزيد